للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والطرشَ والخبلَ، فاغتفلوه بالكلامِ المضحكِ والمحزنِ والمغضِبِ، فإذا ظهرَ منه ما يَظهرُ من السامعِ، واغتفلوا المدعي للعمى بما يفزعُ، أو يُعجبُ من الصُّوَرِ، وتغييرِ الأشكالِ، والإيماءِ إليه بما يوجب البعدَ أو العَدْوَ بالتخويفِ، فإن ظهرَ منه ما يدلُّ على الرؤيةِ، حكموا بكذبهِ فيما ادعاه من فقدِ الحاسَّةِ، وكذلكِ في بابِ العقلِ يمتحنُ بالعقلياتِ، فيغتفلُ (١) بذكر الأخبار التي لا يقبلها العقلُ، والخيالاتِ التي يأباها، فإن أنكرَ، عُلِمَ كذبُه، فكذلك في مسألتنا مَن سُلِّطَ عليه الأخبارُ من طريقِ التواطؤ على ذلك؛ بأنَّ السلطان قد يقدمُ ويقتلُه، وأنَّ أباه غرقَ، أو دارَه احترقت، أو أنَّ بضاعَته تلفت، فإن ظهرَ منه من الشحوب والتغيّرِ فزعاً أو حزناً، أو أخبر بما يغضبه، فغصْب، كَذَّبَتْ حَالُه دعواه، وبانَ أنَّه يجدُ الثقة بالأخبارِ حقيقةً، ويجحدُ ذلكَ مذهباً، وكم بلغ بالناس العنادُ إلى إفسادِ الاعتقادِ، وتَجَرُّدٍ من الإحساس في حقِّ بعضِ الأَشخاصِ؛ لعصبيةٍ أو محبةٍ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حبُّك للشيء يعمي ويصم" (٢)، فغلبةُ المحبةِ تغشي البصرَ والبصيرةَ، فكذلكَ الأهواءُ في المذاهب تفسد المداركَ، فإذا سُلِطَ عليها الامتحانُ، بانَ كذبُ ذلكَ التَّعمُّلِ، والطبعُ أغلبُ.

وأيضاً: فإنَّا نجدُ نفوسَنا ينشأُ فيها العلمُ أولاً فأولاً إلى أن تستحكم


(١) في الأصل: "معتفل".
(٢) آخرجه أبو داود (٥١٣٠) من حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "حبك الشيء يعمي ويصم"، وسكت أبو داود عليه.
وإسناد الحدي ضعيف. انظر "الأسرار المرفوعة" (١٨٧)، و"المقاصد الحسنة" (١٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>