للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اتفاقُهم على الصدقِ أيضاً، لأنَّ الطباعَ لا تتحدُ في فضلٍ ولا نقصٍ مع كثرةِ آرابِها، ألا ترى أنَّه كما يستحيلُ اتفاقُ أهلِ بغدادَ على محبةِ الكذبِ ومحبةِ الخلِّ، يستحيلُ اتفاقُهم على محبةِ الصدقِ ومحبةِ العسل، فالاتفاقُ مستحيلٌ في الخيرِ والشر، بل ربما كانَ الشرُّ أغلبَ، والخيرُ أندرَ وأقلَّ، فإذا لم يجز اتفاقهم على الشرِّ مع كثرةِ مُؤْثِريه وأهلِه، فلأَن لا يجتمعوا على الصدقِ، أَوْلى.

قيل: لسنا نقولُ: إنَّ اتفاقَهم على الصدقِ لأنَّه خير، وعدمَ اتفاقهم على الكذبِ لأنَّه شرٌّ، لكنْ لأن الصدقَ هو نقل ما جَرَى، ولا شيءَ أحبُّ إلى نفوس الناس وميلهم؛ من إشاعة الخبر والحديث بما رأوا وسمعوا، ولهذاَ قيلَ:

وسرُّ الثلاثةِ غير الخفي (١).

وكتمُ السرِّ ثقيلٌ على نفوس النَّاس، فهم مُغْرَمون بنقلِ ما شاهدوا إطرافاً لمن لم يَسْمَعْ، وإخباَراً لمن لم يُخبَرْ، فأمَّا الكتمُ فقلَّ من تقْدِرُ عليه، فهم يحبون نقلَ الخبرِ؛ لا من حيث هو صدقٌ، لكن من حيث هو جارٍ ومسموعٌ؛ يحملُ إلى جانب لم يسمع، وهائل من النظر، وأحسن منه في (٢ المُحَسَّنِ المُجَمَّل ٢)، ومع النفس دواعٍ تدعو إلى الإعلام، ومنعة مانع تمنع من الإسرار والكتم.


(١) عجز بيت من الشعر للصلتان العبدي، وصدره: (وسرُّكَ ما كان عند امرىءٍ)، وهو مع أبيات أخرى له في "خزانة الأدب" ٢/ ١٨٢ - ١٨٣، و"الحيوان للجاحظ" ٣/ ٤٧٧ - ٤٧٨، ونسبها الجاحظ للصلتان السعدي.
(٢ - ٢) هكذا في الأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>