للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحقَّ والقطعَ في أحدِ أقوالهم، وأنَّ الحقَّ لا يخرجُ عن مقالاتِهم، لكن لا يعلمُ ذلك عيناً، واجتهادُهم في الرأي كاجتهادِ أصحابِ الحديثِ في الروايةِ، ولا نقطعُ على صحةِ مقالةِ واحد من المفتين، لأجلِ قطعِنا على أنَّ الحقَّ لا يخرجُ عن رأيهم، كذلكَ لا نقطعُ على خبرِ واحدٍ من الرواةِ بعينه، لأجلِ قطعِنا على أنَّ الحقَّ والصدق لا يخرجُ عن روايتهم.

وأمَّا قولُهم: إنَّه لو لم يوجب العلمَ، لما أوجبَ إذا كثر الرواةُ، وانتهوا إلى حدِّ التواترِ، فغلطٌ، لأنَّ إعطاءَ آحادِ الجُملَةِ ما (١) يجبُ للجملَةِ، يردُّه الحسُ والعقلُ، فإنَّ للتعاضدِ والتناصرِ ما ليس للانفرادِ في بابِ المحسوساتِ، [و] اعتمادُ الجماعةِ يعطي ما لا يعطيه آحادُهم دفعاً ورفعاً للأشياءِ الثقيلة، وتأثيراتُ الأقوالِ المتناصرةِ في النفسِ معلومة، بحيث لا نجدُ قبل تناصِرها في نفوسِنا ما نجدُه بعد تناصِرها وتعاضدِها، بل يجد الإنسانُ في نفسه من التأثير باستثباتِ الخبرِ من الواحدِ، ما لا يجدُ من قولِه مرَّةً من غيرِ استثباتٍ، ولذلكَ يَفْزَعُ العقلاءُ إلى قولِهم لمن أخبرهم بدخولِ الأميرِ البلدَ، وبقدوم القافلةِ على طريق الاستثبات: حقاً تقول؛ فإذا قال: نعم، وجدوا في نفوسهم ما لم يجدوه قبل استثباته، فكيفَ بأقوالٍ بعدَ أقوالٍ، وأخبارٍ بعد أخبارٍ؟! وما زالَ العقلاءُ يطلبون تناصرَ الأدلة؛ ليرتقوا بها إلى القطعِ، فإذا انتهوا إلى القطعِ، سكنوا، وحصلت الثقةُ منهم المغنيةُ عن الاستزادةِ، مثل قوله سبحانه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: ٢٥٩]، {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: ٢٦٠]، {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران: ٤١].


(١) في الأصل: "بما".

<<  <  ج: ص:  >  >>