ومنها: أن قالوا: لما ثبتَ أنَّ المصلحةَ في إثباتِ الأصولِ لما لم يصحَّ أنَّ تُعلمَ إلا سمعاً وتوقيفاً، لم يصحَّ أن يُعلمَ ثبوتُ الحكمِ في الفرع وكونُه مصلحةً إلا من هذا الطريق، لأنَّ ما يُعلم جليُّهُ من طريق، وجب أن يُعلَمَ خفيُّه منه، وهذا يوجب أنْ لا يثبت حكمُ الفرع، وتعلُّقُ المصلحة به إلا بالنص.
فيقالُ لهم: لِمَ سلمتم أنَّ ما عُلِمَ جليُّه من طريقٍ وجب أنْ يُعلَم خفيُّهُ منه، وما الدليل على ذلك؛ وما أنتم فِى هذا إلا بمثابة مَنْ قال: إذا وجب العلمُ ببعض الموجودات ضرورةً، وجب العلمُ بكلِّ موجودٍ ضرورةً، وإذا عُلِمَ بعضُها بدليل، وجب عِلْمُ جميعها بدليل، لتساوي صفة الوجود في كلِّ موجود، وكذلك يجب إذا عُلِمَ بعض الأمور بدَرْكِ الحاسَّة، أنْ يعلمَ سائرُها من ذلك الطرَّيق. وهذا كلّه باطلٌ، لأنَّ طريقَ العلمِ بوجود الشَّيء لا يجب أن يكون طريقاً للعلم بغيره، وكذلك يجب إذا علم قبح بعضِ المقبَّحات، وحُسْن بعض المحسَّنات عقلاً، والفرائض والعبادات العملية عقلاً وضرورة، وجب أن يكون طريقاً للعلم بحُسْن سائر العبادات، وقُبْح جميع المحظورات بضرورة العقل، وهذا باطلٌ عندهم، لأنَّ منه ما يعلم ضرورةً بطريق العقل، ومنه ما لا يعلم إلا بطريق السَّمع، ولو لم يَرِدْ سمعٌ لما عُلِمَ قبحُ ذلك، ولا حُسنُه، وهذا نقض لكلامهم ظاهر.
ثم يقال لهم: إننا لا نَدَّعي علمَ أحكامِ الفروع بقياسنا، وحَمْلِنا الفروعَ على الأصول، وإنما نعلم ذلك يحعل الصِّفة علامةً لنا على إثبات الحكم، فما يثبت الحكم في الفرع بالسَّمع والتوقيف، كما أثبت في