ومنها: أن قالوا: القياسُ فعل القائس، ولا يجوزُ أن يتوصلَ بفعلِه إلى معرفة المصالح.
فيقال: لسنا نعرف المصلحةَ بنفس نَصبِ العلَّة، ولا بحملِ الفرع على الأصلِ الذي هو فعل القائس، وإنما نعلمُ ثبوتَ المصلحةِ في ذلكَ بتوقيفه على تعليقه الحكمَ بالعلةِ وقوله: ما وجدتموها فيه فاعلموا أنَّ حكمي فيه كذا وكذا، فنعلمُ المصلحةَ بحكمِ ما حكمَ به، وبكونِ المعنى دلالةً على ثبوتِ الحكم، وفِعْلنا إنَّما هو حملُ الفرع على الأصلِ، والله سبحانَه هو الدَّالُّ على وجوبِه، وهو سبحانَه -على أصلِهم- لا يَتعبَّدُ إلا بما فيه مصلحةٌ، فبطلَ ما قالوه.
ومنها: أن قالوا: لو صحَّ أن يتعبَّدَ بالقياسِ في أحكامِ الفروع التي ترد للمصلحةِ، لجازَ أن يتعبَّدَ بإثباتِ الأصولِ وإن كانت من المصالح، فلمَّا لم يجز إثباتُ الأُصولِ به، لم يجز إثباتُ الفروع.
فيقال لهم: ومَنِ الذي خبَّركم عنا. بمنع ذلك؟! بل القولُ عندنا في ذلك: أنَّه متى نصبَ لنا أدلَّةً على وجوبِ إثباتِ الحكم في الأصولِ، لآثبتنا صلاةً سادسةً، وحَجَّة ثانيةً، وصومَ شهر آخر، ولكن ليس في شىءٍ من الأصول صفةٌ جُعلَت أمارةً على إثبات أصل آخر، فلذلك امتنعنا، وما ذلكَ إلا بمثابةِ الاجتهادِ في طلبِ القِبْلةِ ثبت في حقِّ البصيرِ؛ لأنه جَعلَ له إلى معرفتها طريقاً، ولم يثبت في حقِّ الضّريرِ حيث لم يَجعلْ له إلى معرفتها طريقاً. لذلك فإنَّ المنعَ من إثباتِ أصلٍ إنَّما كان لعدمِ الطريقِ، لا لكونه أصلاً، ولو عدمنا الطريقَ في الفروع لما أثبتناها إلا بالسَّمع.