للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على أَنهُ فائضُ الجود بعدَ الإيجادِ، لا ليقابلَ بالشكرِ، ولا نعلمُ أنَّه بالعقلِ على صفةٍ يُؤثِّرُ عندَهُ الشكرُ منا؛ لِما دلَّ عليهِ العقلُ منْ أنَّه غنيٌّ أفاضَ لا ليعتاضَ، وأعطى لا ليأخذَ، ونَفَعَ لا ليُقابلَ، فلمَّا جاءَ الشرعُ بإيجابِ (١) الشكر انسَبَكَ منَ الشكرِ أنَّه نفع لنا، لِمَا يعوضُنا عليهِ منَ النفع الدائمِ، فصارَتْ تجارةً لنا، فأكسبناها غنى الأبد للعمرِ السَّرمدِ الخالص منْ كلِّ كَدَرٍ، ولا أنَّ إحسانه -إنْ أوجب العقلُ، أو جوَّزَ إعادةَ الخلقِ- موقوفٌ على الشكرِ منا، ولا عندَ العقل خبرٌ عَنْ شكرِهِ، ولا كيفيةِ شكره، بل ليسَ عندَ العقلِ سوى العلم بأنهُ لا نعمةَ إلا منْهُ، إذْ لا فعلَ صدرَ إلاّ عنْه من ضرٍّ ونفع، وما صدرَ عنْهُ سبحانه منَ المَضارِّ وسلبِ المنافع بأوجع سلب يَمْنعُ العقلَ مِنْ أنْ يحكمَ على أفعالِهِ بأنّها لعنى استدعاءِ الشكرِ، فغايَةُ ما في قوى العقلِ: أنْ يعلمَ أنَّه الفاعلُ للمنافع لا لمعنى (٢) يعودُ إليهِ نفعُه، ولا لاستدعاء شكرٍ، لأنَّ الشكرَ مِن قبيلِ الجدوى والفائدةِ، والله سبحانَهُ بالعقلِ منزهٌ عن ذلكَ، وإنما تلقينا ذلكَ مِنْ قِبَلِ الشَّرع، حيثُ قالَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦]، ومنْ حيثُ استدعى منا على ألسنةِ الرُّسلِ صلواتُ اللهِ عليهم أعمالاً مخصوصةً، وصرَّحَ بأنَّها قرباتٌ إليهِ، وطاعاتٌ لَهُ.

وكذلك بِرُّ الوالدينِ علمْناهُ شرعاً، ثمَّ لو فرقَ بينَ برِّ الوالدينِ وشكرِ اللهِ سبحانَهُ، لَساغَ، وذلكَ أنَّ الشُّكرَ وُضِعَ تقرباً إلى المنعِمِ، ومقابلةً على


(١) زاد في الأصل هنا بعد قوله: "بإيجاب": "شرع بإيجاب".
(٢) في الأصل: "معنى".

<<  <  ج: ص:  >  >>