وقومٌ عبدوا الحجارةَ المُشكلةَ، وكلُّ مَنِ استحسنَ شيئاً عبدَهُ، أو كَلِفَ بشيءٍ عظمَهُ، فأنست نفوسُ العالمِ إلى المحسوسِ المقطوعِ بوجودِهِ منْ طريقِ المشُاهَدة، فلوْ جاءتِ الشرائعُ بالتنْزِيه المحضِ، لجاءت بما يطابق الجحدَ والنفيَ، فلوْ قالوا: صفْ لنا ربَّنا؟ فقالَ: لاجسم، ولا عرض، ولا حامل، ولامحمول، ولا طويل، ولا عريض، ولا بشاغلٍ لمكانٍ ولا لجهة منَ الجهات الست، ولا متلوِّن، ولا ساكن، ولا متحرك، ولاراض، ولا غضبان، ولايحب، ولا يبغض، ولايريدُ، ولا يكره، ولا يغتمُّ، ولا يسرُّ، ولا يُتَخَيَّلُ في النفوس، ولا له صورة في القلوب من داخل، ولا يدركه الإحساسن من خارج، لقالوا له: فهاتِ حُدَّ لنا النفيَ، بأن تُميِّزَ ما تدعونا إلى عبادته على النفي، وإلاَّ علمنا (١) أنك دعوتنا إلى عبادةِ عدمٍ، وعيَّرتنا بعبادة أشياء موجودة، تأثيراتُها محسوسة، فهذِه الشمسُ تنضج الثمار، وتجفِّف الحبوبَ، وتعدل الأمزجة، وهذه النجوم تؤثرُ الاهتداء والاستضاءة، وهذه الرياحُ تُؤَبِّرُ اللقاح، وهذه الأصنام والأزلام قد جرَّبنا عليها النجاح، وبلوغ الأغراض، وأنت فقد أتيتنا بمحض النفي والعدمِ، تدعونا إلى تعظيمِهِ، فلما علم ذلك سبحانه بالعلم الإلهي، والخالقُ أعلمُ بما خلق، جاءَهمْ بأمماءٍ يعقلونَها، وصفاتٍ تعطي بلوغَ الأغراض؛ كلُّ صفةٍ تؤثر معنىً من منافعهم، فسميعٌ يعطي سماعَ أدعيتهم، وبصير يعطي النظر إلى ما يعرض لهم، ورحيم للتحنّنِ عليهمْ، وغضبانُ يوجب الانتقام من السيء المخالف لما وضعه من الشَّرائع لصالِحهم، وإلى أمثالِ ذلكَ.