وقد سمعْتُ في إشكالِ السفينةِ سؤالًا من محقِّقٍ، فقال: إن الغرقَ يتناشأُ كهذه الأشياءِ، إلا أن الشِّبَعَ والرِّيَّ والسكرَ نوعُ امتلاءٍ تَتحددُ عنده هذه الخصيصةُ، والامتلاءُ لا يتحصَّلُ إلا باجزاء الجسمِ المالىءِ للوعاءِ، كما أن الغَرقَ حقيقتُه عومُ السفينةِ في الماء إلى الحَدِّ الذي يغمُرُها، ولا يَغمرُ سائرَها إلا بعد أن يستوليَ على شيءٍ فشيءٍ من ذاتها إلى أن يَستُرَها وَيغمُرَها، ولا تزالُ عند طَرْحِ قفيزٍ قفيزٍ تعوم، فيسترُ الماءُ جزءاً منها إلى أن يبقى يسيرٌ من ذاتِها مكشوفاً، فإذا طُرِحَ القفيزُ غَمَرَها الماء لعومِ ما بَقِيَ من أجزائها في ذلك الماءِ.
فقال له محقِّقٌ: إن عومَ أجزائها مع تمكُنِها من السَّيرِ بما فيها لا يُسمَّى غرقاً، ولا يُسمَّى بعضَ الغرقِ، وُيسمى المنتشِي بالخمر والساكن النَفْس بالتَمَراتِ واللقَمِ شبعاناً بعضَ الشَبَعِ وسكراناً بعضَ السكر؛ ولهذا فسَّروا قولَه [تعالى]: {لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وانْتُم سُكارَى حَتَى تَعْلَموا ما تَقُولُون}[النساء: ٤٣] بالمخلِّطِ في كلامه بمبادِىء سُكرِه؛ لأن الخِطابَ لمن تحقَّقَ زوالُ عقلِه لا يَتحقَّقُ، فلم يَبْقَ إلا سكراناً بقيَ عليه مسْكَةٌ من عقلِه يبقى معها التكليف والخطابُ (١).
ولو كان العومُ مع السَّيرِ وحصولِ الغرضِ باستقلال السفينةِ غرقاً أو بعضَ غرق، لسُمِّيَ السابحُ: غَرِقاً؛ لانستار بعضِ جسدهِ بالماء، وهذا لا يجوزُ في كلِّ اسم وقَعَ على جُمْلةٍ وُضِعَ لها، إذا كانت الجملة لا تتبعَّضُ، بخلاف الجُمَلِ من الأعداد كعشَرَةٍ ومِئَةٍ، يقال في الخمسة: نصفها، وفي الثلاثة: بعضُها، ولا يقالُ في السفينة العائم
(١) انظر ما سبق للمصنف إيراده في مسألة تكليف السكران في الصفحة (٥١).