للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن صدقَ نفسَه الطلبَ، هجمَ به على المَطْلَب، فما مثلُه في ذلك إلا كالطالب للهلالِ في مَطالِعِه وجهاتِ مَطْلَعِهِ، فَهو اخلَقُ لوِجدانِه من الطَّالب لهَ مُتحيراً في جميعِ الآفاقِ، فيعودُ البصرُ كليلاً، والوقت المُغتنَم للنَظرِ متمحِّقاً (١)، وتَهجُمُ ظلْمةُ الليلِ، وينحدرُ الهلالُ عن أفْقِه فيتوارى، كذلك ها هنا تَكِلُ أداةُ الفكرِ، وَيسأمُ النَاظِرُ بتَمْحِيقِ قُوتِهِ ووقتِه في الطَّلب في غير مَظانِّ المَطْلوب، وكم يُدْهَى (٢) النَّاسُ من هذا الفَنِّ لقلَّة معَاناتِهم لهذه الصِّناعةِ التيَ هي أصلُ الغنيمةِ.

ومثالُ ذلك مما نحن فيهِ: الطَّالبُ بفكرهِ للدليلِ على حَدَثِ الجِسمِ، فينبغي أن يَضَع في نفسِه ما لَة شهادةَ بغيرِه دون ما لا شهادةَ له.

وكذلك كلُّ برهان احتِيجَ إلى استخراجِه، فإنَما يُستخرجُ من حَيزِ ما له شهادة دون ما لا شهادةَ له، وليس إذا وَجَدَ ما له شهادة كفاهُ في ذلك دون أن يكونَ له شهادة لا بالمعنى الذي يطلبُه، فيكون حقَّاً في نفسِه.

وذلك أن المعانيَ على ضَرْبَينِ: معنىً يشهدُ بغيرِه، ومعنىً لا يشهدُ بغيرِه، والذي يشهدُ بغيرِه على ضَرْبَيني: برهانٍ وغيرِ برهانٍ، وليس يشهدُ بالمعنى ما لاتَعلُقَ له به، وكلُ تعلقٍ بين شيئين فلايخلو من أن يكون من أجل النَّفس، أو من أجلِ علَّةٍ، أو لا من أجل النَّفسِ ولا من أجلِ عَلةٍ، وكيف تَصرَّفتِ الحالُ بالتَعلُقِ فلا بُدَّ أن يَرجِعَ إلى أنه إذا صحَ الأوَّلُ صحَ الثاني، وإذا لم يصحَّ الثاني لم


(١) أي ذاهباً ومبطلاً. "اللسان" (محق).
(٢) أي يصابون بالدواهي، جمع داهية، والداهية: الأمر المنكر العظيم، ودواهي الدهر: ما يصيب الناس من عظيم نوَبِه.

<<  <  ج: ص:  >  >>