للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وامتنع جماعة من الأصوليين والفقهاء من إدخال هذا في جملة القياس، فقالوا: ما أكثر ما اغترَّ بهذا قوم وقالوا: إنه قياس، حيث لم يكن في لفظه نهي عن الضرب ولا ذكر العمياء، وإنما هو في معناه. وليس كما ظنوا، فإن الوضع هو للمنع نُطقاً، وصار كقول المتهدِّد: افعل ما شئتَ وأكثِر مما نَهيتُك عنه. قال الله سبحانه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: ٤٠] وقا. ل لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء: ٦٤] هذا كله بلفظ الاستدعاء، فهو أكثرُ من قولكم في التنبيه: ليس فيه ذكر الضرب، لكن وضِعت الصيغةُ التي هي بصورةِ صيغةِ الأمرِ، تهديداً لضد مَا وضِعَت صيغة الأمرِ، فإنَّ التهديدَ زجر عن جميع ما ذكره سبحانه، كذلك ذكرُ التأفيف والدينارِ صيغة موضوعة للنهي عن الكثر، فإذا جازَ أن تضع: "افعل ما شئتَ" زجراً عن فعل، كان وضعها للنهيّ عن التأفيف، نهياً عن الضرب بالصيغة لا بالمعنى، وهذا واضح في هذا الباب.

وأدخل هذا المُقَسم في القياسِ الجلي قولَه - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْضي القاضي حينَ يَقْضي وهُو غَضْبان" (١)، وهو دونَ الأول، والأوّل أجلى، وإنَما أدخل هذا في باب الجليّ، لأنَّ السابق إلى الفَهم أنَ الغضب يَشغلُ القلبَ، وُيزعج الطبعَ، وُيحيل المزاجَ، ويعمي عن الرأي، إذ مبنى الرأيّ على الاعتدالِ، فيتعدّى ذلكَ إلى كلُّ مُزعج للطبعِ مزيل للاعتدالِ من الطرب، والحزن، والحَقْنِ (٢)، والخوف، والجوع


(١) تقدم تخريجه ص (٥٢٥) من الجزء الأول.
(٢) الحقن: هو احتباس البول، والحاقن: هو الذي حَبسَ بولَه. "اللسان": (حقن).

<<  <  ج: ص:  >  >>