للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فصل

واعلمْ أنَّ الله سبحانَه، غيرُ محتاج إلى إقامةِ الدلالةِ على كلامِه لمن كلَّمه، بل هو القادرُ على إيقاعَ ذلك في نفس من خاطبهُ، واضطرارهِ إلى ذلك، لكنه إن أقامَ دلالةً من أفعالٍ خارَقةٍ، فإنما يفعلُ ذلك ليثيبَ المستدلينَ باستدلالِهم، كما أنّه كان قادراً على اضطرارِ الخلقِ إلى معرفتِه، من غيرِ استدلالٍ، بافعالِه، ثم إنه جعلَ السبيلَ إلى معرفتِه والطريقَ إلى إثباتِه، ما ذرأ وبرأ، وما ضمَّن مخلوقاتِه من الدلائلِ على حدثِها واحتياجها إلى صانعٍ، ووضعَ فيها من إحكام الصنعةِ ما دل به على حكمتِه وعلمهِ، فكذلك وضعَ الأدلةَ على أنهُ هو الَمتكلمُ لمن كلمهُ مكافحةً، كموسى دكَّ له الجبلَ، وقلبَ عصاهُ ثعباناً، ومحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أسرى بهِ ليلاً في بعضِ ليلةٍ، وقطع به المسافاتِ البعيدةَ، فهذهِ الدلائلُ إمّا لمجردِ المشيئةِ، أو لإظهارِ جواهرِ الرجالِ بعلوم الاستدلالِ، وإثابتهم على ما يلحقهُم في الاستدلالِ من الكلفِ، كماَ كلفهم سائرَ الأعمالِ مع غنائِه عنها.

وقد دل على قدرتِه علىٍ اضطرارِ الخلقِ كلّهم إلى معرفتِه، أنه قد وضعَ في عقولهم ما عرفوهُ بديهة بأولِ وهلَةٍ، مثلُ العلوم الضروريةِ، وعرَّفهم بعضَ الأشياءِ بأدنى فكرةٍ، وعرفهم بعضَها بالاستدلاَلِ الغامض، والبحثِ الدقيقِ، والوسائط البعيدةِ المسافةِ، فلا يعتاصُ عليه فعلُ ما فعلُه بوسيطِه أن يفعلَه مبادأةً بغيرِ تلكَ الوسيطةِ.

فصل

واعلمْ أنَ أمرِ اللهِ سبحانه ونَهيه لمن أمرهُ ونهاهُ حقيقةٌ، وكلامه لمن كلمهُ حقيقة، وأنَ المأمورَ والمنهيَ محدثٌ، ولا يقف كونُه أمراً، على وجودِ المأمورِ والمنهي، لما أجمعَ عليه أهلُ اللغةِ والعقلاءُ في الشاهِد، أن الموصيَ آمرٌ وناهٍ بوصيتِه، لما كان مضيفاً للكلامِ إلى

<<  <  ج: ص:  >  >>