للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى أنْ ذَكَرْتُ ما وُصِفَ به من سُرْعَة الحِفْظ، وسَألتُه أنْ يُريَني من ذلك ما أحْكِيه عنه، فقال: خُذ كِتَابًا من هذه الخِزَانَة -لخِزَانَة قريبةٍ منه- واذْكُر أوَّلَهُ، فإنِّي أُوْردُهُ عليك حِفْظًا، فقُلتُ: كتَابُكَ ليس بغَرِيْب إنْ حَفِظْته، قال: قد دار بَيْنَك وبين أخيْك كلام بالفَارِسِيَّةِ إنْ شئتَ أعدتُه، قُلتُ: أَعِدْهُ، فأعادَهُ ما أخَلَّ والله منهُ بحَرْفٍ! ولم يكُن يَعْرفُ اللُّغَةَ الفَارِسِيَّةَ.

أخْبَرَنا أبو هاشِم عَبْد المُطَّلِب بن الفضل إذْنًا، قال: أخْبَرَنا أبو سَعْد السَّمْعَانيّ (١)، إجَازَةً إنْ لم يَكُن سَمَاعًا، قال، وذَكَرَ أبا العَلَاء بن سُلَيمان: وحَكى تِلْمِيْذُه أبو زَكَرِيَّاء التَّبْرِيْزِيّ أنَّهُ كان قَاعِدًا في مَسْجِده بمَعَرَّة النُّعْمَان بين يَدَيْهِ يَقْرأُ عليه شَيئًا من تَصَانِيْفه، قال: وكنتُ قد أتْمَمْتُ عندَهُ سَنَتَيْن ولم أرَ أحدًا من بَلَدِي، فدَخَل مُغَافَصَةً (a) المَسْجِدَ بعضُ جِيْرَاننا للصَّلَاة، فرأيتُه وعَرَفْتُه، وتغيَّرتُ من الفَرَح، فقال لي أبو العَلَاء: ما أصابكَ، فحكيتُ له أنِّي رأيتُ جارًا لي بعد أنْ لَم ألْقَ أحدًا من بَلَدِي منذُ سِنِين، فقال لي: قُم وكَلِّمه، فقُلتُ: حتَّى أُتَمِّم السَّبَق، فقال: قُم أنا أنتظرُكَ، فقُمْتُ وكَلَّمْتُهُ بالأذَرْبَيجِيَّةِ (b) شيئًا كَثيرًا، إلى أنْ سألتُ عن كُلِّ ما أردْتُ، فلمَّا عُدْتُ وقَعَدْتُ بينَ يَدَيْهِ، قال لي: أيُّ لِسَان هذا؟ قُلتُ: هذا لسَانُ أهل أَذْرَبِيْجَان. فقال: ما عرفْتُ اللِّسَانَ ولا فهمتُه غير أنِّي حَفِظتُ ما قُلْتُما، ثمّ أعاد لفْظَنا بلفْظِ ما قُلْنا، فجَعَل جاري يتعجَّب غاية العَجَب، ويقول: كيف حَفِظ شيئًا لم يَفْهَمْهُ.

وأخْبَرَني عنه بمثل هذه الحِكايَة والدي، رَحِمَهُ اللهُ، يَأْثُرهُ عن أسْلَافه، قال (٢): كان لأبي العَلَاء جَارٌ أعْجَميّ، فاتَّفَقَ أنّهُ غابَ عن مَعَرَّة النُّعْمَان، فحضَر


(a) مغافصة: أي فجأة، وتحرفت في نشرة أنساب السمعاني: معنا صفة المسجد.
(b) السمعاني: بلسان الأذربية.

<<  <  ج: ص:  >  >>