للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَجُلٌ أعْجَميٌّ يطلبُهُ قد قَدِمَ من بلَده فوَجدَهُ غائبًا، ولم يمُكنهُ المقام، فأشَار إليهِ أبو العَلَاء أنْ يَذْكر حاجتَهُ إليه، فجعَل ذلك الرَّجُل يتكلَّم بالفَارِسِيَّة وأبو العَلَاء يُصْغي إليه إلى أنْ فَرغ من كلامهِ، ولم يكُن أبو العَلَاء يَعْرف باللِّسَان الفَارِسِيّ، ومَضَى الرَّجُل، وقَدِمَ جَاره الغائبُ، وحَضَر عند أبي العَلَاء، فذَكَر له حال الرَّجُل، وجَعَلَ يَذْكرُ لهُ بالفَارِسِيَّةِ ما قال، والرَّجُل يَبْكي ويَسْتَغِيث ويَلطم، إلى أنْ فَرِغ من حديثِهِ، وسُئل عن حالهِ، فأخْبرهم أنَّهُ أخْبَر بمَوْتِ أبيهِ وإخْوَته وجَمَاعة من أهله.

قال لي والدي (١): وممَّا بلَغَني من ذكائهِ أنَّ جارًا سَمَّانًا كان له، وبينَهُ وبين رَجُل من أهل المَعَرَّة مُعَاملة، فجاءه ذلك الرَّجُل وحَاسَبه برِقَاع كان يَسْتدعي فيها ما يأخُذ منه عند دعْو حَاجته إليهِ، وكان أبو العَلَاء في غُرْفَة له يسمَعُ مُحاسبَتَهما. قال: فسَمِعَ أبو العَلَاءِ السَّمَّان المَذْكُور بعد مُدَّة يتأوَّهُ ويتمَلْمَلُ، فسَأله عن حَالهِ، فقال: كنتُ حاسَبْتُ فُلَانًا برِقَاعٍ كانت لهُ عندي، وقد عَدمتُها ولا يَحْضرُني حِسَابه، فقال له: ما عليكَ من بأسٍ، تعال إليَّ فأنا أُمْلي عليك حِسَابَهُ، وجَعَل يُمْلِي مُعَاملته جميعها رُقْعَةً رُقْعَةً، والسَّمَّان يكتُبُها إلى أنْ فَرغ وقام، فما مَضَت إلَّا أيَّام يَسِيْرةٌ ووَجَد السَّمَّان الرِّقَاع وقد جَذَبَها الفأرُ إلى زَاوِيَة في الدُّكَّان، فقابَلَ بها ما أمْلاهُ عليه أبو العَلَاء، فلم تخرم حَرْفًا واحدًا.

أخْبَرَني القَاضِي أبو المَعَالِي أحْمَد بن مُدْرِك بن سَعيد بن مُدْرِك بن عليّ بن سُلَيمان قاضي مَعَرَّة النُّعْمَان (٢)، قال: أخْبَرَني جَمَاعَةٌ من سَلَفنا أنَّ بعضَ أُمَرَاءِ حَلَب قيل له: إنَّ اللُّغَة الّتي ينقلُها أبو العَلَاء إنَّما هي من الجَمْهَرَة، وعندَهُ نُسْخة من الجَمْهَرَة ليسَ في الدُّنْيا مِثْلُها، وحَسَّنوا له طَلَبها منه قَصْدًا لأذاهُ، فسَيَّر أمير


(١) الإنصاف والتحري (ضمن إعلام النبلاء) ٤: ١٢٩.
(٢) انظر: الإنصاف والتحري (ضمن إعلام النبلاء) ٤: ١٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>