للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَزَهُّدًا، وكان مع ذلك يَصُوم أكْثَر زَمانه، ويُفْطِر على الخَلِّ والبَقْل، ويقُول: إنَّ في هذا لخيرًا كَثيرًا.

أخْبَرَنا عُمَر بن مُحَمَّد بن طَبَرْزَد إجَازَةً، عن أبي الفَضْل بن نَاصِر، قال: حَدَّثَنَا أبو زَكَرِيَّاء التَّبْرِيْزِيُّ، قال: كان المَعَرِّيّ يُجْري رِزْقًا على جَمَاعَةٍ ممَّنَ كان يَقْرأ عليه، ويَتردَّد لأجْل الأدَب إليه، ولم يَقْبل لأحد هَدِيَّةً ولا صِلَةً، وكان له أربعَةُ رجالٍ من الكُتَّاب المُجَوِّدِين في خِزانَته وجَارِيهِ (a) يَكْتُبون عنه ما يَرْتَجله ويُمْليهِ.

أنْبَأنَا زَيْد بن الحَسَن الكِنْدِيّ، قال: أنْبَأنَا هِبَةُ الله بن عليّ العَلَويّ الشَّجَرِيّ، قال: حَدَّثَنَا أبو زَكَرِيَّاء التَّبْرِيْزِيّ، قال: ما أعْرفُ أنَّ العَرَب نَطقت بكلمة ولم يَعْرفها المَعَرِّيّ، ولقد اتَّفَق قَوْمٌ ممَّن كان يَقْرأ عليه، ووضَعوا حُرُوفًا وألَّفُوها كَلِمَات، وأضَافوا إليها من غَرِيْب اللُّغَة ووَحْشِيِّها كَلِمَات أُخْرى، وسَألُوه عن الجميع على سَبيل الامْتِحان، فكان كُلّما وصَلُوا إلى كلمة ممَّا ألَّفُوهُ يَنْزعجُ لها، ويُنْكرها، ويَسْتَعيدُها مِرَارًا، ثمّ يقُول: دعُوا هذه، والألْفَاظ اللُّغَويّة يَشْرحُها ويَسْتَشهدُ عليها حتَّى انْتَهت الكَلِمَاتُ، ثمّ أطْرَقَ ساعةً مُفَكِّرًا، ورَفَع رأسَهُ، وقال: كأنِّي بكم وقد وضَعْتُم هذه الكَلِمَات لتَمْتَحنُوا بها مَعْرفتي وثِقَتي في روايتي، والله لئن لم تَكْشفُوا لي الحال وتَدَعُوا المُحَال، وإلَّا هذا فِرَاق ما بيني وبينكم، فقالوا له: واللهِ الأمْر كما قُلْتَ، وما عدوتَ ما قَصَدْناهُ، فقال: سُبْحَان اللهِ، والله ما أقُول إلَّا ما قالَتْهُ العَرَبُ، وما أظُنُّ أنَّها نَطَقَتْ بشيءٍ لم أعْرِفهُ.

قَرَأتُ في كتاب تَتِمَّة اليَتِيْمة لأبي مَنْصُور الثَّعالبِيّ (١)، وذكَرَ فيها أبا العَلَاء المَعَرِّيّ فقال: وكان حَدَّثَني أَبو الحَسَن الدُّلَفيّ المِصِّيْصيّ الشَّاعر، وهو ممَّن لقيْتُهُ قَديْمًا وحَدِيثًا في مُدَّة ثلاثين سَنَةً، قال: لقيتُ بمَعَرَّة النُّعْمَان عَجبًا من العَجَب؛


(a) كذا في الأصل، ولعل مراده: يُنفق ويجري عليهم رزقًا من ماله.

<<  <  ج: ص:  >  >>