قد لَزِمَ بيتَهُ فما يُرَى مُتَبَرزًا، وألفَ دارَهُ وأصْبَحَ فيها مُعْتَمدًا مُتَعزِّزًا، لا يُؤْنسهُ عن الوَحْشَة إلَّا الدَّفَاتِر، ولا يصْحَبُه في الوَحْدَة إلَّا المَحَابِر، قد اقْتَصَر من دُنْياهُ على الزَّاويَة، وأَنِسَ بالاعْتِزَال والعَافِيَة، وقَصَرَ هِمَّتَهُ على أدَبِ يُفِيْدُهُ، وتَصْنِيف يُجِيْدُهُ، وقَرِيْض يَنْظمُه، ونَثْر يَنْثرُه فيُحْكمه، ومُتَعَلِّم يَفضلُ عليه، ومُسْتَرْفد صُعْلُوك يُحْسِنُ إليه، فهو عَذْبُ المَشْرَبِ، عَفُّ المطْلَب، نقِيَّ السَّاحَةِ من المآثم، بَرِيء الذّمَّة من الجَرَائمِ، يَرْجعُ إلى نفسٍ أمَّارة بالخيرِ، بعيدَة من الشَّرِّ، قد كُفَّ عنِ زُخْرِف الدُّنْيا ونضْرتها، وغُضَّ طَرْفُه عن مَتَاعها وزَهْرَتها، ونقى جَيْبَهُ، فَأمن النَّاسُ عَيْبَه، قد اسْتَوَى في النَّزَاهَة نَهَارُهُ وليلُه، فلم يتدَنَّسْ بفَاحِشَةٍ قَطَّ ذَيْلُه،
(١) ترجمته في تراجم المحمدين، في الكتاب من الكتاب، وتقدم التعريف برحلة أبي الفرج الكاتب في الجزء الأول، وانظر بعض النقول عنها في الإنصاف والتحري لابن العديم (ضمن إعلام النبلاء) ٤: ١٤٤.