للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعاد لإصْلَاح المَعادِ بإعْدَادِ الزَّادِ، واعْتَزَلَ هذه الغَدَّارة، وأفرجَ عن المُرَاد.

ولهُ دارٌ حَسَنَةٌ يأويْها، ومَعَاشٌ يَكفيهِ ويَمُونهُ، وأولاد أخٍ باقٍ يَخْدمُونَهُ، ويقرَأونَ بينَ يَدَيْهِ، ويَدْرسُونَ عليه، وبَكْتُبُونَ له، وورَّاق برَسْمِهِ مُسْتَأجَر، ثُمَّ يُنْفِقُ على نفسِه من دَخْل مَعَاشِه نففةً طَفِيْفَة، وما يَفْضُلُ عنهُ يُفَرِّقُهُ على أخيهِ وأوْلادِهِ واللائذِيْنَ به والفُقَرَاءَ والقَاصدين له من الغُرَبَاء، ولا يقبلُ لأحدٍ دَقيقًا ولا جلِيْلًا، فقد اسْتَعْمَل قول النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم (١) أنَّ رَجُلًا أتاهُ فقال: يا رسُول اللهِ، أيّ النَّاس أفْضَل؟ قال: رَجُل يُجَاهِد في سَبيْل الله بماله ونَفْسه. قال ثمّ مَنْ؟ قال: مُؤْمِن في شِعْب من الشِّعَاب يَعْبُدُ اللهَ، ويَدَع النَّاسَ من شَرِّه. وما رُوي أنَّ عُقْبَة بن عَامِر قال (٢): يا رسُول الله، ما النَّجَاةُ؟ قال: أمْلِكْ عليكَ لسَانَكَ، وليَسَعكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئَتكَ، فقد اتَّخذ الله تعالَى ذِكْرهُ صَاحِبًا. وترَكَ النَّاسَ جَانِبًا.

فَمَضَيْتُ إليه مُسَلِّمًا، وللاسْتِسْعَادِ به مُغْتَنِمًا، فرأيتُ شَيْخًا حَكَمْتُ بأنَّهُ مَولُودٌ في طَالع الكَمَالِ، وأنَّهُ جُمْلَة الجالِ (a) ، شَمْسُ عَصْرِه، وزِيْنَة مِصْره، وعَلَم الفَضْل المَطْلُوب، ووَاسطَةُ عقْد الأدَب المَحْبُوب، يَزِيدُ على العُلَمَاء زِيَادَةَ النُّور على الظَّلَام، والكِرَام على اللِّئَام، ويَنيْفُ عليهم إنافَة صَفْحَة الشَّمْس على كُرَة الأرْض، ويَشَأُهم كما يَشْأَى السَّابِق يَوْمَ الامْتِحان والعَرْض.

وذكَرَ قصائد سَمِعَها منهُ من شِعْره، وقال في آخِرها: يا وَلدِي، أبْقَاكَ


(a) الأصل: الحمال.

<<  <  ج: ص:  >  >>