للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيقال: إنَّما توقَّفَ، لأنَّ حكمَ الشرائعِ التي كانت لمن قبلَهُ من الأنبياء صلوات الله عليهم ليس يعلمها ويحكيها إلا من شهد عليهم بالكذبِ والعناد، وتغيير كتُبه، وعنادِهم لرسله، فلم يُعوِّلْ في ذلك إلا على طريق الوحي إليه، فإذا أُخْبِرَ بذلك، اتبعَ، وذلك مثلُ قوله في كتابنا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...} [المائدة: ٤٥] الآيات، فلهذا كان توقفُهُ، لأنَّهُ لا يتبع [إلا] ما صح عنده من شرائع من قبله.

ومنها: أنَّ الشرائعَ ما جاءت إلا بمصالح العبادِ، وخُصَّ كُلُّ نبيٍّ بمعنىً بحسب مصلحةِ قومه، وعُلمَ أنَّهمَ يَمَلُّونَ الأمورَ الدائمة، ويميلون إلى الأحدث، وعلم أن لكل عصر حكماً (١) هو أصلح لأهله، وهذا يمنعُ من اتباع نبي لنبيٍّ، لأنَّه قد يكونُ الحكمُ الأَوَّلُ (٢) أصلح لهم، والأصلحُ لنا في غير ذلك.

فيقال: نحنُ لا ننكرُ هذا، وكما لا ننكر هذا، أنتم لا تنكرون أنه قد يبقى حكم كان في الشريعة الأولى، فلا ينسخُ بنبأ الشريعةِ (٣) الثانيةِ، فيتبيىْ بذلك أنَّهما استويا في ذلك في باب الأصلح، وإنَّما الذي اختلفنا فيه هو ما يردُ به النسخُ، فنحنُ لا نجعلهُ تابعاً إلا في الحكمِ المستبقى، فأمَّا في الحكمِ المرفوعِ بالنسخِ، فلا، وهذا هو الظاهرُ، لأنَّه كان مصلحةً لهم خاصَّةً دوننا، لنسخهِ في شريعتنا؛ ولأنَّ هذا لا يمنع من اتباعنا لهم، كما لم يُمنع التابعون من متابعة الأحكام التي كانت في أيام الصحابة، وإن كانَ الزمانُ مختلفاً،


(١) في الأصل: "حكيماً".
(٢) في الأصل: "للأول".
(٣) في الأصل: "لشريعة".

<<  <  ج: ص:  >  >>