أن يُطالَبَ أحد من الخلقِ بعلمِ ما لا سبيلَ إلى علمِه، ثم تطالبونا مع هذا القول بتعريفِكم وجهَ المصلحةِ في تعلُّقِ الأحكامِ بصفاتِ ما حلَّ أو حرُمَ، وهذا تعدِّ منكم ورجوعٌ عن قولِكم.
ويقالُ لهم أيضاً: إنَّنا إذا علمنا أنَّ العليمَ الحكيمَ لايتعبَّدُنان إلا بما فيه المصلحةُ، قطعنا أنَّ العباداتِ كلها مصالحُ، وإن لم نعلم وجهَ المصلحةِ في كلِّ واحدةٍ من العباداتِ بعينِه، ولا يكون جهلنا بوجهِ المصلحةِ في كلِّ شيء منها مُخرجاً لنا عن العلمِ بأنه مصلحةٌ في الجملةِ، ألا ترى أنَّ الصِّحةَ والمرضَ، والقوَّةَ والضَّعفَ، والغِنى والفقرَ، وكلَّ ما يفعلُه الله سبحانَه عندكم بالعبدِ، وإن لم يعلم على وجهِ التفصيلِ كونه مصلحةً ومن أي وجه، كان ذلك مصلحةً له.
والذي يكشفُ عن صحَّةِ ما قلناه، من أنه ليسَ من شرطِ المعرفةِ بكونِ الشَّيء مصلحةً أن يكونَ وجهُ المصلحةِ فيه معلوماً لنا، بدليلِ أعدادِ الركعاتِ، ومواقيتِ الصلواتِ، فكونُ الرُّكوع واحدأً، والسُّجود اثنتينِ، وتكليف الجوع والعطش في نهار الصوم، والتطيب للجمعة، والشعث للحجِّ، وتحريم العمَّةِ والخالةِ، وتحليل ابنتَيهِما، وتحريم قتل الصيد في الحَرَم والإحرام، والبُدْن في ذبح الهَدْي في الحرم والإحرام، فهذه كلُّها تكاليف فإذا قلنا لكم بأنها مصالحُ، دخلنا معكم في القول بالأصلح فيها، وإن جهلنا وجه الأصلح في كلِّ واحدٍ منها، فيَبْطُلُ ما تعلقتُم به من إبطالِ الأصلح بالجهلِ بوجهِ الأصلح، حتى إنّنا لو أوقفنا التزامَ التكليفِ على معرفةِ وجهِ كلِّ شيء منه في فعلٍ وتركٍ، وإيجابٍ وحظرٍ، لما لَزِمَنا شيء