للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنها: أَن قالوا: لو كان الحقّ في جهةٍ واحدةٍ، لوَجَبَ أَن يُنقَضَ به كلُّ حُكمٍ (١ يُخالفُه، كما قال ١) الأَصَمّ وبِشْرٌ المريسِيّ، ولَمَّا قلتم: لا يُنقَضُ أنكم بما يُخالِفُ ما اعْتَقَدتموه إِصابةً وحقّاً، دَلَّ على أَن الحُكميْنِ جميعاً حقٌّ وصوابٌ.

والجوابُ: أَنه إِنَّما لم يُنقض الحكم؛ لأَنَّ الله سبحانه جَعَلَ (٢) أَدِلَّةَ الحقِّ خَفِيَّةً، والشبهاتِ مُعترِضةً، والأَدلَّةَ مُتجاذبَةً، فلو جَوَّزَ نَقْضَ الحُكمِ، لَما ثَبَتَ للشَّريعةِ حكمٌ، ولنَقَضَ كلّ حاكمٍ على غيرِه، فسامحَ الشَّرعُ وساهلَ في ذلك، لِئَلاّ يَقَعَ التَّهارجُ والتَّنازعُ، وعدمُ استقرارِ حكمِ الله في الأَرضِ؛ إِذ كان كلّ واحدٍ من الحكَّام ينقض على مخالفه، فلا يستقرّ شيءٌ من الأحكام، وليس كل ما (٣) عَفَى عنه، ولم يَتعرَّضْ له بالنَّقضِ، دلَّ على أَنَّه حقٌّ، فإنَّه سامحَ أَهلَ الكِتابيْنِ بالإِقرارِ على ما يُخالِفُ حكمَ الإِسلام، ولا يَتعرَّضُ لأَحكامِهم بالنَّقضِ، ولا لِبيَعِهم وصَوامِعِهم وكَنائِسِهم بالهَدْمِ، وكذلك البَيْعُ عندَ النداءِ، والسَّوْمُ على سومِ المسلمِ، والخِطْبةُ على خِطْبتِه، كلّ ذلك لا يُنقَضُ، ولا يَدُلّ على أَنه حقٌّ وصوابٌ، ولا جائزٌ في الشَّرع.

على أَنه إِن كان عَدَمُ النقضِ دليلاً عندَكم على الصَّوابِ، كان وجوب الرّجوع عن الاجتهادِ الأَوَّلِ إِلى الثاني دَلالةً على أَنَّ الكلَّ ليس


(١ - ١) بياض في الأصل.
(٢) في الأصل: "لله".
(٣) في الأصل: "كلما".

<<  <  ج: ص:  >  >>