الحافظ ابن حجر عملاً بظاهر اللفظ وفي كلِّ منهما نظر لأنّا إذا قلنا إن بعثته عليه الصلاة والسلام قاطعة لدعوة عيسى فلا نبيّ للمؤمن من أهل الكتاب إلاّ محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وحينئذ فالإيمان إنما هو بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقط فكيف ترتب الأجر مرتين؟ أجيب: بأن مؤمن أهل الكتاب لا بدّ أن يكون مع إيمانه بنبيه مؤمنًا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعهد المتقدم والميثاق في قوله تعالى:{وإذ أخذ الله ميثاق النبيين}[آل عمران: ٨١]. الآية. المفسر بأخذ الميثاق من النبيّين وأممهم مع وصفه تعالى له في التوراة والإنجيل، فإذا بعث -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فالإيمان به مستمر.
فإن قلت: فإذا كان الأمر كما ذكرت فكيف تعدد إيمانه حتى تعدد أجره؟ أجيب: بأن
الإيمان أولاً تعلق بأن الموصوف بكذا رسول وإيمانه ثانيًا تعلق بأن محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الموصوف بتلك الصفات فهما معلومان متباينان فجاء التعدد.
(فله أجران) أجر الإيمان بنبيّه وأجر الإيمان بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذا حكم الكتابية إذ النساء شقائق الرجال في الأحكام.
واستشكل دخول اليهود في ذلك لأن شرعهم نسخ بعيسى عليه الصلاة والسلام والمنسوخ لا أجر في العمل به فيختص الأجران بالنصراني. أجيب: بأنّا لا نسلم أن النصرانية ناسخة لليهودية.
نعم لو ثبت ذلك لكان كذلك كذا قرره الكرماني وتبعه البرماوي وغيره، لكن قال في الفتح: لا خلاف أن عيسى عليه الصلاة والسلام أرسل إلى بني إسرائيل فمن أجاب منهم نسب إليه ومن كذب منهم واستمر على يهوديته لم يكن مؤمنًا فلا يتناوله الخبر لأن شرطه أن يكون مؤمنًا بنبيه. نعم من دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل أو لم يكن بحضرة عيسى فلم تبلغه دعوته يصدق عليه أنه يهودي مؤمن إذ هو مؤمن بنبيه موسى ولم يكذب نبيًّا آخر بعده، فمن أدرك بعثة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ممن كان بهذه المثابة وآمن به لم يشكل أنه دخل في الخبر المذكور. نعم الإشكال في اليهود الذين كانوا بحضرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد ثبت أن الآية الموافقة لهذا الحديث وهي قوله تعالى في سورة القصص:{أولئك يؤتون أجرهم مرتين}[القصص: ٥٤]. نزلت في طائفة آمنوا به كعبد الله بن سلام وغيره، ففي الطبراني من حديث رفاعة القرظي قال: نزلت هذه الآيات فيّ وفيمن آمن معي، وروى الطبراني بإسناد صحيح عن عليّ بن رفاعة القرظي قال: خرج عشرة من أهل الكتاب منهم أبي رفاعة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فآمنوا فأوذوا فنزلت:{الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}[القصص: ٥٢]. فهؤلاء من بني إسرائيل ولم يؤمنوا بعيسى بل استمروا على اليهودية إلى أن آمنوا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد ثبت أنهم يؤتون أجرهم مرتين. قال الطيبي: فيحتمل إجراء الحديث على عمومه إذ لا يبعد أن يكون طريان الإيمان بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سببًا لقبول تلك الأديان وإن كانت منسوخة انتهى.
ويمكن أن يقال: إن الذين كانوا بالمدينة لم تبلغهم دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام لأنها لم تنتشر في أكثر البلاد فاستمروا على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى إلى أن جاء الإسلام فآمنوا بمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فبهذا يرتفع الإشكال واشتراط بعضهم في الكتابي بقاءه على ما بعث به نبيه من غير تبديل ولا تحريف، وعورض بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كتب إلى هرقل:"أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين" وهرقل كان ممن دخل في النصرانية بعد التبديل والتقييد بأهل الكتاب مخرج لغيرهم من الكفار، فلا ينبغي حمله على العموم وإن جاء في الحديث أن حسنات الكفار مقبولة بعد إسلامهم لأن لفظ الكفار يتناول الكافر الحربي وليس له أجران قطعًا.
(والعبد) المملوك (الذي يؤدي حق الله) تعالى كالصلاة والصوم (وينصح لسيده) في خدمته وغيرها (له أجران) أيضًا أجر تأديته للعبادة وأجر نصحه.
(ثم قال) عامر (الشعبي): أعطيكها بضم الهمزة بلفظ المستقبل من غير واو ولا فوقية (بغير شيء) من الأجرة (وقد كان الرجل يرحل) يسافر (في أهون منها) أي من المسألة (إلى المدينة) النبوية.