فلا يكره، ولا يكون خلاف الأولى، وإن كان للجزع وعدم التسليم للقضاء، فيكره أو يحرم. وهذا كله في البكاء بصوت، أما مجرد دمع العين العاري عن القول والفعل الممنوعين، فلا منع منه. كما قال عليه الصلاة والسلام:
(ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) أضاف الفعل إلى الجارحة تنبيهًا على أن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة العبد، ولا يكلف الانكفاف عنه، وكأن الجارحة امتنعت، فصارت هي الفاعلة لا هو. ولهذا قال: وإنا بفراقك لمحزونون. فعبر بصيغة المفعول لا بصيغة الفاعل، أي ليس الحزن من فعلنا، ولكنه واقع بنا من غيرنا، ولا يكلف الإنسان بفعل غيره. والفرق بين دمع العين، ونطق اللسان أن النطق يملك بخلاف الدمع، فهو للعين كالنظر ألا ترى أن
العين إذا كانت مفتوحة نظرت شاء صاحبها أو أبى، فالفعل لها. ولا كذلك نطق اللسان، فإنه لصاحب اللسان. قاله ابن المنير.
(رواه) أي: أصل الحديث (موسى) بن إسماعيل التبوذكي (عن سليمان بن المغيرة) بضم الميم وكسر الغين المعجمة (عن ثابت) البناني (عن أنس) هو ابن مالك (رضي الله عنه، عن النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما وصله البيهقي في الدلائل، وفيه: التحديث والعنعنة والقول.
٤٥ - باب الْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَرِيضِ
(باب البكاء عند المريض) إذا ظهرت عليه علامة مخوفة، وسقط لفظ: باب، عند أبي ذر.
١٣٠٤ - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنهم-، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ فَقَالَ: قَدْ قَضَى؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَكَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَكَوْا. فَقَالَ: أَلَا تَسْمَعُونَ؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ. وَإِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". وَكَانَ عُمَرُ -رضي الله عنه- يَضْرِبُ فِيهِ بِالْعَصَا، وَيَرْمِي بِالْحِجَارَةِ وَيَحْثِي بِالتُّرَابِ.
وبالسند قال: (حدّثنا أصبغ) بن الفرج (عن ابن وهب) عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو) هو: ابن الحرث المصري (عن سعيد بن الحارث الأنصاري) قاضي المدينة (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما، قال):
(اشتكى) أي: مرض (سعد بن عبادة) بسكون العين في الأول، وضمها في الثاني، مع تخفيف الموحدة (شكوى له) بغير تنوين (فأتاه النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم، فلما دخل عليه) النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن معه (فوجده في غاشية أهله) بغين وشين معجمتين بينهما ألف الذين يغشونه للخدمة والزيارة، لكن قال في الفتح: وسقط لفظ أهله من أكثر الروايات، والذي في اليونينية سقوطها لابن عساكر فقط، فيجوز أن يكون المراد بالغاشية: الغشية من الكرب، ويقويه رواية مسلم بلفظ: في غشيته. وقال التوربشني في شرح المصابيح: المراد ما يتغشاه من كرب الوجع الذي فيه، لا الموت. لأنه برئ من هذا المرض، وعاش بعده زمانًا (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(قد قضى؟) بحذف همزة الاستفهام أي: أقد خرج من الدنيا بأن مات. (قالوا) ولأبي ذر،
وابن عساكر: فقالوا (لا يا رسول الله) جواب لما مر مما استفهمه (فبكى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما رأى القوم) الحاضرون (بكاء النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بكوا فقال) عليه الصلاة والسلام:
(ألا تسمعون: إن الله) بكسر الهمزة استئنافًا لأن قوله: تسمعون لا يقتضي مفعولاً، لأنه جعل كاللازم فلا يقتضي مفعولاً أي: ألا توجدون السماع؟ كذا قرره البرماوي وابن حجر، كالكرماني، وقد تعقبه العيني فقال: ما المانع أن يكون: أن، بالفتح في محل المفعول لتسمعون. وهو الملائم لمعنى الكلام؟ اهـ. لكن الذي في روايتنا بالكسر (لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا) إن قال سوءًا - (وأشار إلى لسانه- أو يرحم) بهذا إن قال خيرًا (وإن) وللكشميهني: أو يرحم الله، وإن (الميت يعذب ببكاء أهله عليه) بخلاف الحي فلا يعذب ببكاء الحي عليه، وإنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا تضمن ما لا يجوز، وكان الميت سببًا فيه. كما مر.
(وكان عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه) فيما هو موصول بالسند السابق إلى ابن عمر (يضرب فيه) في البكاء بالصفة المنهي عنها بعد الموت (بالعصا، ويرمي بالحجارة، ويحثي بالتراب) تأسيًا بأمره عليه الصلاة والسلام بذلك في نساء جعفر، كما مرّ.
وفي الحديث: التحديث والأخبار والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم.
٤٦ - باب مَا يُنْهَى عَنِ النَّوْحِ وَالْبُكَاءِ، وَالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ
(باب ما ينهى عن النوح) أي باب النهي عنه، فما مصدرية ولأبي ذر، وابن عساكر