كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام) أي حول الكعبة ولم يكن في عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أبي بكر دار بل الدور حول البيت وبينها أبواب لدخول الناس فوسعه عمر -رضي الله عنه- بدور اشتراها وهدمها واتخذها للمسجد جدارًا قصيرًا دون القامة ثم تتابع الناس على عمارته وتوسيعه (قال) عليه الصلاة والسلام له:
(أوف بنذرك) الذي نذرته في الجاهلية أي على سبيل الندب وليس الأمر للإيجاب، واستدلّ به على جواز الاعتكاف بغير صوم لأن الليل ليس ظرفًا للصوم، فلو كان شرطًا لأمره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- به لكن عند مسلم من حديث سعيد عن عبيد الله يومًا بدل ليلة فجمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن أطلق ليلة أراد بيومها، ومن أطلق يومًا أراد بليلته، وقد ورد الأمر بالصوم في رواية عمرو بن دينار عن ابن عمر صريحًا لكن إسنادها ضعيف، وقد زاد فيها أنه قال: له: "اعتكف وصم" أخرجه أبو داود والنسائي من طريق عبد الله بن بديل وهو ضعيف، وقد ذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عن عمرو بن دينار ورواية من روى يومًا شاذة، وقد وقع في رواية سليمان بن بلال الآتية إن شاء الله تعالى فاعتكف ليلة فدلّ على أنه لم يزده على نذره شيئًا وأن الاعتكاف لا صوم فيه قاله في فتح الباري وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. وعن أحمد أيضًا لا يصح بغير صوم والأول هو الصحيح عندهم وعليهم أصحابهم، وقال المالكية والحنفية: لا يصح إلا بصوم، وأحتجوا بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يعتكف إلا بصوم وفيه نظر لما في الباب الذي بعده أنه اعتكف في شوال. واستشكل قوله نذرت في الجاهلية الخ إذ ظاهره أنه الوقت الذي كان هو فيه على الجاهلية لأن الصحيح أن نذر الكافر غير صحيح.
وأجيب: بأن المراد أنه نذر بعد إسلامه في زمن لا يقدر أن يفي بنذره فيه لمنع الجاهلية للمسلمين من دخول مكة ومن الوصول إلى المحرم وهذا مردود بما أخرجه الدارقطني من طريق سعيد بن بشير عن عبد الله بلفظ: نذر عمر أن يعتكف في الشرك فهذا صريح في أن نذره كان قبل إسلامه في الجاهلية، فالمراد من قوله عليه الصلاة والسلام له:(أوف بنذرك) على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب لعدم أهلية الكافر للتقرب فحمله على الندب أولى إذ لا يحسن تركه بالإسلام ما
عزم عليه في الكفر من الخير والله أعلم. وعند الحنابلة يصح النذر من الكافر وعبارة المرداوي في تنقيح المقنع النذر مكروه وهو إلزام مكلف مختار ولو كافرًا بعبادة نصًّا نفسه لله تعالى.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الاعتكاف، وأخرجه مسلم في الإيمان والنذور وكذا أبو داود والترمذي، وأخرجه النسائي فيه وفي الاعتكاف، وأخرجه ابن ماجة في الصيام.
وبالسند قال (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا حماد بن زيد) هو ابن درهم قال (حدّثنا يحيى) بن سعيد الأنصاري (عن عمرة) بنت عبد الرحمن الأنصارية (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعتكف في العشر الأواخر من رمضان) والاعتكاف فيه آكد منه في غيره اقتداء به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطلبًا لليلة القدر (فكنت أضرب له خباء) بكسر الخاء المعجمة ثم موحدة ممدودًا أي خيمة من وبر أو صوف لا من شعر وهو على عمودين أو ثلاثة (فيصلّى الصبح) في المسجد (ثم يدخله) أي الخباء (فاستأذنت حفصة) بنت عمر أم المؤمنين (عائشة) نصب مفعول حفصة (أن تضرب خباء) أي في ضرب خباء لها فأن مصدرية (فأذنت لها) عائشة. وفي رواية الأوزاعي الآتية إن شاء الله تعالى: فاستأذنته عائشة فأذن لها وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت (فضربت) أي حفصة (خباء) لها لتعتكف فيه (فلما رأته) أي الخباء (زينب ابنة) ولأبي ذر: بنت (جحش) أم المؤمنين (ضربت خباء آخر) زاد في رواية عمرو بن الحرث عند أبي عوانة: وكانت امرأة غيورًا