الحصيب أوصى بأن يجعل في قبره جريدتان، محمول على أن ذلك رأي له لم يوافقه أحد من الصحابة عليه، أو: أن المعنى فيه أنه يسبح ما دام رطبًا، فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وحينئذ فيطرد في كل ما فيه رطوبة من الرياحين والبقول وغيرها، وليس لليابس تسبيح، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: ٤٤] أي: شيء حي، وحياة كل شيء بحسبه، فالخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع من معدنه، والجمهور أنه على حقيقته، وهو قول المحققين، إذ العقل لا يحيله أو: بلسان الحال باعتبار دلالته على الصانع، وأنه منزه. وسبق في باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله من الوضوء، مزيد لما ذكرته هنا.
٨٣ - باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ، وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ}: الأَجْدَاثُ الْقُبُورُ. {بُعْثِرَتْ}: أُثِيرَتْ: بَعْثَرْتُ حَوْضِي: أَىْ جَعَلْتُ أَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ. الإِيفَاضُ: الإِسْرَاعُ. وَقَرَأَ الأَعْمَشُ {إِلَى نَصْبٍ}: إِلَى شَىْءٍ مَنْصُوبٍ يَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ. وَالنُّصْبُ وَاحِدٌ، وَالنَّصْبُ مَصْدَرٌ. يَوْمُ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ {يَنْسِلُونَ}: يَخْرُجُونَ.
(باب موعظة المحدث عند القبر) الموعظة مصدر ميمي، والوعظ: النصح والإنذار بالعواقب (و) باب (قعود أصحابه) أي أصحاب المحدث (حوله) عند القبر لسماع الموعظة والتذكير بالموت وأحوال الآخرة. وهذا مع ما ينضم إليه من مشاهدة القبور، وتذكر أصحابها، وما كانوا عليه، وما صاروا إليه من أنفع الأشياء لجلاء القلوب، وينفع الميت أيضًا لما فيه من نزول الرحمة عند قراءة القرآن والذكر. قال ابن المنير: لو فطن أهل مصر لترجمة البخاري هذه لقرت أعينهم بما يتعاطونه من جلوس الوعاظ في المقابر، وهو حسن، إن لم يخالطه مفسدة. اهـ.
وقد استطرد المؤلّف بعد الترجمة بذكر تفسير بعض ألفاظ من القرآن مناسبة لما ترجم له على عادته، تكثيرًا لفرائد الفوائد، فقال في قوله تعالى: ({يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ}) [المعارج: ٤٣] (الأجداث) معناه، فيما وصله ابن أبي حاتم وغيره من طريق قتادة والسدي: (القبور) وقوله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ (بُعْثِرَتْ)} [الانفطار: ٤] معناه: (أثيرت) بالمثلثة بعد الهمزة المضمومة، من الإثارة يقال: (بعثرت حوضي أي: جعلت أسفل أعلاه) قاله أبو عبيدة في المجاز، وقال السديّ، مما رواه ابن أبي حاتم: بعثرت: حركت فخرج ما فيها من الأموات، وعن ابن عباس، فيما ذكره الطبراني: بعثرت: بحثت.
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: ٤٣] (الايفاض) بهمزة مكسورة ومثناة تحتية ساكنة وفاء ثم ضاد معجمة، مصدر من: أوفض يوفض، إيفاضًا معناه: (الإسراع) قال أبو عبيد: يوفضون، أي: يسرعون (وقرأ الأعمش) سلمان بن مهران موافقة لباقي القراء، إلا ابن عامر وحفصًا (إلى نصب) بفتح النون وسكون الصاد، وفي نسخة زيادة {يُوفِضُونَ} [المعارج: ٤٣] ولأبي ذر: إلى نصب بضم النون وسكون الصاد بالجمع، والأول أصح عن الأعمش: (إلى شيء منصوب) قال أبو عبيدة: العلم الذي نصبوه ليعبدوه (يستبقون إليه) أيهم يستلمه أول (والنصب) بضم النون وسكون الصاد (واحد، والنصب) بالفتح ثم السكون (مصدر) قال في فتح الباري: كذا وقع، والذي في المغازي للفراء: النصب والنصب واحد وهو مصدر، والجمع الأنصاب. فكان التغيير من بعض النقلة. اهـ.
وتعقبه العيني فقال: لا تغيير فيه لأن البخاري فرق بين الاسم والمصدر، ولكن من قصرت يده عن علم الصرف لا يفرق بين الاسم والمصدر في مجيئهما على لفظ واحد. اهـ. والأنصاب: حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح لغير الله.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ (يَوْمُ الْخُرُوجِ)} [ق: ٤٢] أي: خروج أهل القبور (من قبورهم) وقوله تعالى: ({يَنْسِلُونَ}) [الأنبياء: ٩٦ ويس: ٥١] أي: (يخرجون) زاد الزجاج بسرعة.
١٣٦٢ - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ. فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَاّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَاّ قَدْ كُتِبَ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ؟ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ. ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآيَةَ". [الحديث ١٣٦٢ - أطرافه في: ٤٩٤٥، ٤٩٤٦، ٤٩٤٧، ٤٩٤٨، ٤٩٤٩، ٦٢١٧، ٦٦٠٥، ٧٥٥٢].
وبالسند قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عثمان) بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، أحد الحفاظ الكبار، وثقه يحيى بن معين وغيره، وذكر الدارقطني في كتاب التصحيف أشياء كثيرة صحفها من القرآن في تفسيره، لأنه ما كان يحفظ القرآن (قال: حدَّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا، بالجمع (جرير) هو: ابن عبد الحميد الضبي (عن منصور) هو: ابن المعتمر (عن سعد بن عبيدة) بسكون العين في الأول، وضمها وفتح الموحدة آخره، هاء تأنيث مصغرًا في الثاني (عن أبي عبد الرحمن) عبد الله بن حبيب، بفتح الحاء المهملة، السلمي (عن علي) هو: ابن أبي طالب (رضي الله عنه، قال):
(كنا في جنازة في بقيع الغرقد) بفتح الموحدة وكسر القاف، والغرقد بفتح الغين المعجمة والقاف بينهما راء ساكنة آخره دال مهملة، ما عظم من شجر العوسج، كان ينبت فيه، فذهب الشجر وبقي الاسم لازمًا للمكان. وهو مدفن أهل المدينة،