للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

المحصل لتلك اللذة لأنه لا يتم إيمان المرء حتى يتمكن في نفسه أن المنعم والقادر على الإطلاق هو الله تعالى ولا مانح ولا مانع سواه وما عداه وسائط لها، فإن الرسول هو المعطوف الحقيقي الساعي في إصلاح شأنه وإعلاء مكانه، وذلك يقتضي أن يتوجه بشراشره نحوه ولا يحب ما يحبه إلا لكونه وسطًا بينه

وبينه، فإن تيقن أن جملة ما وعد به وأوعد حق لا يحوم الريب حوله فيتيقن أن الموعود كالواقع وأن الاستقلال بما يؤول إليه الشيء كملابسته فيحسب مجالس الذكر رياض الجنة، وأكل مال اليتيم أكل النار، والعود إلى الكفر الإلقاء في النار فيكره الإلقاء في النار، وثنّى الضمير هنا في قوله سواهما، وردّ على الخطيب: ومن عصاهما فقد غوى وأمره بالإفراد إيماء إلى أن المعتبر هنا هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة فإنها وحدها ضائعة لاغية، وأمر الخطيب بالإفراد إشعارًا بأن كل واحد من العصيانين يستقل باستلزام الغواية، فإن قوله: ومن عصى الله ورسوله من حيث إن العطف في تقدير التكرير والأصل فيه استقلال كل من المعطوف والمعطوف عليه في الحكم في قوة قولنا ومن عصى الله فقد غوى ومن عصى الرسول فقد غوى.

وقد سبق شيء من ذلك عند ذكر الحديث في باب الإيمان وبالله المستعان.

٤٣ - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} -إِلَى قَوْلِهِ- {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: ١١]

(باب قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم} - إلى قوله- {فأولئك هم الظالمون}) وسقط قوله {عسى} إلى آخره لأبي ذر، وقال بعد {من قوم} الآية. نهى عن السخرية وهي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه المسلم بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته والقوم الرجال خاصة لأنهم القوّام بأمور النساء وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر لكن فعل ليس من أبنية التكسير إلا عند الأخفش نحو: ركب وصحب، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله:

وما أدري ولست أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء

فاختصاص القوم بالرجال في الآية من عطف ولا نساء على قوم، وفي الشعر من جعل أحد المتساويين يلي الهمزة والآخر يلي أم وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض، وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية. قال في الانتصاف: لو عرّف المؤمنين فقال: لا يسخر المؤمنون والمؤمنات بعضهم من بعض لعمّ ومراده أن في التنكير يحصل أن كل جماعة منهية على التفصيل وهو واقع. وقال الطيبي: استغراق الجنس أيضًا يراد منه التفصيل. والمعرّف بتعرف العهد الذهني مفيد للتفصيل أيضًا كالنكرة إذ المعنى لا يسخر من هو مسمى بالقوم من قوم مثله. قال ابن جني: مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته انتهى.

وقوله: {عسى أن يكونوا خيرًا منهم} كلام مستأنف ورد مورد جواب المستخبر عن علة النهي وإلاّ فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء، والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد بأن

المسخور منه ربما كان عند الله خيرًا من الساخر إذ لا اطّلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رثّ الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق أي غير حاذق في محادثته فلعله أخلص ضميرًا وأنقى قلبًا ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله تعالى. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه-: البلاء موكّل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبًا.

وقوله: {ولا تلمزوا أنفسكم} فيه وجهان أحدهما: عيب الأخ إلى الأخ فإذا عابه فكأنه عاب نفسه، والثاني: أنه إذا عابه وهو لا يخلو عن عيب فيعيبه به المعاب فيكون هو بمعيبه حاملاً لغيره على عيبه فكأنه هو العائب نفسه، واللمز الطعن والضرب باللسان {ولا تنابزوا} ولا تدعوا {بالألقاب}

<<  <  ج: ص:  >  >>