أنه (قال: كنت فيمن رجمه بالمصلّى) مكان صلاة العيد والجنائز (رواه) أي الحديث (يونس) بن يزيد (ومعمر) هو ابن راشد فيما وصله عنهما المؤلّف في الحدود (وابن جريج) عبد الملك مما وصله أيضًا فيه الثلاثة (عن الزهري عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن جابر عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الرجم) فخالفوا عقيلاً في الصحابي فإنه جعل أصل الحديث من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة وهؤلاء جعلوه من رواية جابر.
وبه قال:(حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب أبو عبد الرحمن الحارثي القعنبي (عن مالك) الإمام الأعظم (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير (عن زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (أبي سلمة عن أم سلمة) هند أم المؤمنين (-رضي الله عنها- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(انما أنا) بالنسبة إلى الاطّلاع على بواطن الخصوم (بشر) لا بالنسبة إلى كل شيء فإن له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أوصافًا أُخر والحصر مجازي لأنه حصر خاص أي باعتبار علم البواطن ومعلوم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشر وإنما قال ذلك توطئة لقوله (وإنكم تختصمون إليّ) بتشديد الياء فلا أعلم بواطن أموركم كما هو مقتضى أصل الخلقة البشرية (ولعل بعضكم أن يكون ألحن) بالحاء المهملة أبلغ في الإتيان (بحجته من بعض) وهو كاذب (فأقضي) أي له بسبب كونه ألحن بحجته (نحو ما أسمع) منه، ولأبي ذر عن الحموي على نحو ما أسمع (فمن قضيت له بحق أخيه) أي المسلم وكذا الذمي ومن في قوله فمن قضيت شرطية، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: من حق أخيه (شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار). أي فإنما أقضي له بشيء حرام يؤول إلى النار كما قال تعالى:{إنما يأكلون في بطونهم نارًا}[النساء: ١٠] وفيه أنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم بواطن الأمور إلا أن يطلعه الله على ذلك وأنه يحكم بالظاهر، ولم يطلعه الله تعالى على حقيقة الأمر في ذلك حتى لا يحتاج إلى بيّنة ويمين تعليمًا لتقتدي به أمته فإنه لو حكم في القضايا بيقينه الحاصل من الغيب لما أمكن الحكم لأمته من بعده، ولما كان الحكم بعده مما لا بدّ منه أجرى أحكامه على الظاهر وأمر أمته بالاقتداء به فإذا حكم بما يخالف الباطن لا يجوز للمقضي له أخذ ما قضي له به وفيه دلالة على صحة مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير علماء الأمصار أن حكم الحاكم إنما ينفذ ظاهرًا لا باطنًا، وأنه لا يحل حرامًا ولا يحرّم حلالاً بخلاف أبي حنيفة حيث قال: إن حكمه ينفذ ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ وسيكون لنا عودة إلى مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه بعون الله سبحانه.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة فينبغي للحاكم أن يعظ الخصمين ويحذرهما من الظلم وطلب الباطل اقتداء به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قال في الفتح: وفي الحديث أن التعمق في البلاغة بحيث يحصل اقتدار صاحبها على تزيين
الباطل في صورة الحق وعكسه مذموم ولو كان ذلك في التوصل إلى الحق لم يذم، وإنما يذم من ذلك ما يتوصل به إلى الباطل في صورة الحق فالبلاغة إذًا لا تذم لذاتها وإنما تذم بحسب المتعلق الذي قد يمدح بسببه وهي في حدّ ذاتها ممدوحة، وهذا كما يذم صاحبها إذا طرأ عليه بسببها الإعجاب وتحقير غيره ممن لم يصل إلى درجته ولا سيما إن كان الغير من أهل الصلاح فإن البلاغة إنما تذم من هذه الحيثية بحسب ما ينشأ عنها من الأمور الخارجية عنها، ولا فرق في ذلك بين البلاغة وغيرها، بل كل فطنة توصل إلى المطلوب محمودة في حد ذاتها وقد تذم أو تمدح بحسب متعلقها. واختلف في تعريف البلاغة فقيل: أن يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه، وقيل إيصال المعنى إلى الغير بأحسن لفظ أو هي الإيجاز مع الإفهام والتصرف من غير إضمار، أو هي قليل لا يبهم وكثير لا يسأم، أو هي إجمال اللفظ واتساع المعنى، وقيل هي النطق في موضعه والسكوت في موضعه، وهذا كله عن المتقدمين. وعرّف أهل المعاني والبيان البلاغة بأنها مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع الفصاحة