(إذا ائتمن) شيئاً (خان) فيه (وإذا حدّث كذب) في كل ما حدّث به (وإذا عاهد) عهدًا (غدر) أي ترك الوفاء بما عاهد عليه (وإذا خاصم فجر) في خصومته أي مال عن الحق وقال الباطل، وقد تحصل من الحديثين خمس خصال الثلاثة السابقة في الأوّل والغدر فى المعاهدة والفجور في الخصومة فهي متغايرة باعتبار تغاير الأوصاف واللوازم، ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف ما في الباطن إما في الماليات وهو ما إذا ائتمن، وإما في غيرها وهو إما في حالة الكدورة فهو إذا خاصم، وإما في حالة الصفاء فهو إما مؤكد باليمين فهو إذا عاهد أو لا فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو إذا وعد، وإما بالنظر إلى الحال فهو إذا حدّث، لكن هذه الخمسة في الحقيقة ترجع إلى الثلاث لأن الغدر في العهد منطوٍ تحت الخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة داخل تحت الكذب في الحديث. ورجال هذا الحديث كلهم كوفيون إلا الصحابي على أنه قد دخل الكوفة أيضًا، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض والتحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الجزية، ومسلم في الإيمان وأصحاب السنن.
ثم قال المؤلف (تابعه) أي تابع سفيان الثوري (شعبة) بن الحجاج في رواية هذا الحديث (عن الأعمش) وقد وصل المؤلف هذه المتابعة في كتاب المظالم، ومراده بالمتابعة هنا كون الحديث مرويًّا من طريق أخرى عن الأعمش، والمتابعة هنا ناقصة لكونها ذكرت في وسط الإسناد لا في أوّله.
ولما ذكر المؤلف كتاب الإيمان الجامع لبيان باب السلام من الإسلام وأردفه بخمسة أبواب استطرادًا لما فيها من المناسبة وضمنها علامات النفاق رجع إلى ذكر علامات الإيمان فقال:
٢٥ - باب قِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ الإِيمَانِ
هذا (باب) بالتنوين وهو ساقط في رواية الأصيلي (قيام ليلة القدر من الإيمان) أي من شعبه.
" وبالسند المذكور أوّلاً إلى المصنف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع البهراني بفتح الموحدة الحمصي الثقة الثبت من العاشرة. يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائتين (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (قال: حدّثنا أبو الزناد) بالنون عبد الله بن ذكوان القرشي (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز المدني (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من يقم ليلة القدر) للطاعة (إيمانًا) أي تصديقًا بأنه حق وطاعة (واحتسابًا) لوجهه تعالى لا للرياء ونحوه ونصبًا على المفعول له، وجوّز أبو البقاء فيما حكاه البرماوي أن يكونا على الحال مصدرًا بمعنى الوصف أي مؤمنًا محتسبًا (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي غير الحقوق الآدمية، لأن الإجماع قائم على أنها لا تسقط إلا برضاهم، وفيه الدلالة على جعل الأعمال إيمانًا لأنه جعل القيام إيمانًا وليلة نصب مفعول به لا فيه، وجملة غفر له جواب الشرط. وقد وقع ماضيًا، وفعل الشرط مضارعًا، وفي ذلك نزاع بين النحاة والأكثرون على المنع، واستدل القائلون بالجواز بقوله تعالى:{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ}[الشعراء: ٤] لأن قوله فظلت بلفظ الماضي وهو تابع للجواب. وتابع الجواب جواب، وإنما عبّر بالمضارع في الشرط في قيام ليلة القدر، وبالماضي في قيام رمضان وصيامه في البابين اللاحقين لأن قيام رمضان وصيامه محقّقًا الوقوع فجاءا بلفظ يدل عليه بخلاف قيام ليلة القدر فإنه غير متيقن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل وقاله الكرماني. وقال غيره: استعمل لفظ الماضي في الجزاء مع أن المغفرة في زمن الاستقبال إشارة إلى تحقق وقوعه على حد قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّه}[النحل: ١] وقد روى النسائي الحديث عن محمد بن علي بن ميمون عن أبي اليمان شيخ المصنف بلفظ "من يقم ليلة القدر يغفر له" فلم يغاير بين الشرط والجزاء. قال في الفتح: فظهر أنه من تصرف الرواة فلا يستدل به للقول بجواز التغاير في الشرط والجزاء. وعند أبي نعيم في مستخرجه "لا يقوم أحدكم ليلة القدر فيوافقها إيمانًا واحتسابًاً إلا غفر له". وقوله: فيوافقها زيادة بيان وإلاّ فالجزاء مرتب على قيام ليلة القدر ولا يصدق قيامها إلا على من يوافقها. وقوله: يقم بفتح الياء من قام يقوم وقع هنا