الحديث تامًّا بإسناد واحد بلفظين (وهو عندي دعا الله ودعاه ثم قال) عليه الصلاة والسلام:
(أشعرت) أي أعلمت (يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: جاءني رجلان) هما جبريل وميكائيل (فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي) بالتثنية (ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل)؟ يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال: مطبوب) أي مسحور. قال القرطبي: إنما قيل للسحر طب لأن أصل الطب الحذف بالشيء والتفطن له فلما كان كلٌّ من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كلٍّ منهما هذا الاسم (قال: ومن
طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زريق. قال: فيماذا؟ قال: في مشط ومشاطة) بالطاء المهملة (وجف طلعة) بالإضافة وتنوين طلعة ولأبي ذر عن المستملي وجب طلعة بالموحدة بدل الفاء (ذكر) صفة لجف بالفاء أو الباء (قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان) بفتح الهمزة وسكون الراء وسقط لأبي ذر لفظة ذي فعلى الأول فهو من إضافة الشيء لنفسه قيل: والأصل أروان ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت ذروان بالذال المعجمة بدل الهمزة (قال: فذهب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أناس من أصحابه إلى البئر) سبق ذكر من حصل ذلك منهم -رضي الله عنهم- (فنظر إليها) عليه الصلاة والسلام (وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها) في بشاعة منظرها وخبثها (رؤوس الشياطين. قلت: يا رسول الله أفأخرجته)؟ أي صورة ما في الجب من المشط والمشاطة وما ربط به (قال: لا) فهو مستخرج من البئر غير مستخرج من الجف جميعًا بين النفي والإثبات في الحديثين (أما) بالتشديد (أنا فقد عافاني الله) منه (وشفاني وخشيت أن أثوّر على الناس منه شرًّا) باستخراجه من الجف لئلا يروه فيتعلموه إن أرادوا استعمال السحر. (وأمر) عليه الصلاة والسلام (بها) بالبئر (فدفنت).
وعند أبي عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى: احتجم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على رأسه بقرن يعني حين طبّ، قال أبو عبيد، قال ابن القيم: بنى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأمر أولاً على أنه مرض وأنه عن مادة سألت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه فرأى الحجامة لذلك مناسبة فلما أوحي إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه قال: ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيل إليه ما ذكر، فإن السحر قد يكون من تأثير الأرواح الخبيثة وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع لأنه إذا هيج الأخلاط وظهر أثره في عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعًا في ذلك، وقال الحافظ ابن حجر: سلك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب ففي أول الأمر فوّض وأسلم لأمر ربه، واحتسب الأجر في صبره على بلائه ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء وكلٌّ من المقامين غاية في الكمال.
٥١ - باب مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا
هذا (باب) بالتنوين (إن من البيان سحرًا) بالنصب وللأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت وذر عن الكشميهني سحر بالرفع وللحموي والمستملي السحر بالألف واللام.
وبه قال:(حدّثنا عبد الله بن يوسف) الدمشقي ثم التنيسي الكلاعي الحافظ قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن زيد بن أسلم) الفقيه العمري (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه قدم رجلان) قيل هما الزبرقان بكسر الزاي والراء بينهما موحدة ساكنة وبالقاف وهو من أسماء القمر لقب به لحسنه واسم أبيه بدر بن امرئ القيس بن خلف، والآخر عمرو بن الأهيم واسم الأهيم سنان يجتمع مع الزبرقان في كعب بن سعد بن زيد مثناة بن تميم فهما تميميان قدما في وفد تميم على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سنة تسع من الهجرة (من المشرق) أي من جهة المشرق وكان سكنى بني تميم من جهة العراق وهي في شرق المدينة