(باب قول الله تعالى: {ذكر رحمة ربك}) خبر سابقه أن أوّل بالسورة أو القرآن فإنه مشتمل عليه أو خبر محذوف أي هذا المتلو ذكر رحمة ربك ({عبده}) مفعول الرحمة أو الذكر على أن الرحمة فاعله على الاتساع ({زكريا}) بدل منه أو عطف بيان له ({إذ نادى ربه نداء خفيًّا}) قال في الكشاف: لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الإخفاء أولى لأنه أبعد من الرياء، وأدخل في الإخلاص. وعن الحسن نداء لا رياء فيه. قال في فتوح الغيب: فيكون الإخفاء ملزومًا للإخلاص الذي هو عدم الرياء لأن الإخفاء أبعد من الرياء ولما عبر عن عدم الرياء بالخفاء علم أن لا اعتبار للظاهر وأن الأمر يدور على الإخلاص حتى أنه لو نادى جهرًا بلا رياء دخل أو نادى سرًا بلا إخلاص خرج منه، وقيل إنما نادى خفيًا لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبر أو لأن ضعف الهرم أخفى صوته واختل في سنه فقيل ستون وخمس وستون وسبعون وخمس وسبعون وخمس وثمانون، ثم فسر النداء بقوله:({قال رب إني وهن العظم مني}) ضعف بدني، وإنما كنى عنه بقوله (وهن العظم مني) وخص العظم بالذكر لأنه كالأساس للبدن وكالعمود للبيت، وإذا وقع الخلل في الأس وسقط العمود تداعى الخلل في البناء وسقط البيت، فالكناية مبنية على التشبيه أو أن العظم أصلب ما في الإنسان فيلزم من وهنه وهن جميع الأعضاء بالطريق الأولى فالكناية غير مسبوقة بالتشبيه قاله الطيبي.
({واشتعل الرأس شيبًا})[مريم: ٢ - ٣ - ٤] شبه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره وفشوّه في الشعر باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى الرأس الذي هو محل الشيب مبالغة وجعله تمييزًا إيضاحًا للمقصود (إلى قوله {لم نجعل له من قبل سميًا})[مريم: ٧] وسقط قوله إذ نادى إلى آخر قوله شيبًا لأبي ذر.
(قال ابن عباس): فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي طلحة أي (مثلاً) أو شبهًا لأنه لم يهم بمعصية قط ولأنه كان سيدًا وحصورًا وعنه أيضًا عنده من طريق عكرمة قال لم يسم باسم يحيى قبله غيره، وأخرجه الحاكم في المستدرك فيه فضيلة ليحيى إذ تولى الله تعالى تسميته باسم لم يسبق إليه ولم يكل ذلك إلى أبويه (يقالا {رضيا}) في قوله تعالى {واجعله رب رضيا}[مريم: ٦] أي (مرضيّا) أي ترضاه أنت وعبادك. ({عتيًا})[مريم: ٨] في قوله تعالى: {وقد بلغت من الكبر عتيًا} عصيا) بفتح العين وكسر الصاد المهملتين قالوا، والصواب بالسين. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: ما أدري أكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ عتيًا أو عسيًا. يقال عتا الشيخ يعتو عتيًا، وعسا يعسو عسيًا إذا انتهى سنه وكبر وشيخ عات وعاس إذا صار إلى حالة اليبس والجفاف (عتا) كذا ولأبي ذر وأبي الوقت وهو ساقط لغيرهما (يعتو). مثل غزا يغزو فهو واوي.
({قال رب أنّى}) من أين ({يكون}) أو كيف يكون {لي غلام وكانت امرأتي عاقرًا} لا تلد {وقد بلغت من الكبر عتيًا}(إلى قوله {ثلاث ليال سويًّا})[مريم: ١٠] أي متتابعات (ويقال صحيحًا) ما بك من خرس ولا بكم، وهذا أصح لأنه لم يقدر أن يتكلم مع الناس إلا بذكر الله وإنما ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران للدلالة على أنه استمر عليه المنع ثلاثة أيام ولياليهن وسقط قوله: {وكانت امرأتي) إلى آخر (عتيًّا) لغير أبي ذر ({فخرج}) زكريا ({على قومه من المحراب}) من المصلّى ({فأوحى إليهم أن سبحوا}) صلوا ونزهوا ربكم ({بكرة وعشيًّا})[مريم: ١١] طرفي النهار. وقوله:({فأوحى}) أي (فأشار}) ببعض الجوارح بعين أو حاجب أو يد، وقيل كانت بالمسبحة لقوله إلا رمزًا وقيل كتب لهم على الأرض ({يا يحيى}) فيه حذف تقديره ووهبنا له يحيى وقلنا له يا يحيى ({خذ الكتاب}) هو التوراة ({بقوّة}) بجدّ (إلى قوله {ويوم يبعث حيًّا}) قال الطيبي: وسلام معطوف من حيث المعنى على قوله {وآتيناه الحكم صبيًا} وجعلناه برًّا بوالديه، وسلمناه في تلك المواطن الموحشة فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الثبات والدوام وهي