من تلطفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمر في صرفه عن قتله.
وقال ابن دقيق العيد في أوائل شرح الإلمام: إذا أخبر شخص بحضرة النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أمر ليس فيه حكم شرعي فهل يكون سكوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دليلاً على مطابقة ما في الواقع كما وقع لعمر في حلفه على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر عليه، فهل يدل عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل؟ فيه نظر. قال: والأقرب عندي أنه لا يدل لأن مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على الباطل وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة إلا أن يدعي مدّعٍ أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة فيحتاج إلى دليل وهو عاجر عنه. نعم التقرير يسوّغ الحلف على ذلك على غلبة الظن لعدم توقف ذلك على العلم اهـ.
قال في الفتح: ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوي الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قسم خلاف الأولى.
وقال في المصابيح: وقد يقال هذا محمول على أنه لم ينكره إنكار من نفى كونه الدجال بدليل أنه أيضًا لم يسكت على ذلك بل أشار إلى أنه متردّد، ففي الصحيحين أنه قال لعمر: إن يكن هو فلن تسلط عليه فتردّد في أمره فلما حلف عمر على ذلك صار حالفًا على غلبة ظنه والبيان قد تقدم من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم هذا سكوت عن حلف على أمر غيب لا على حكم شرعي ولعل مسألة السكوت والتقرير مختصة بالأحكام الشرعية لا الأمور الغيبية اهـ.
وقال البيهقي: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان متوقفًا في أمره ثم جاءه التثبت من الله بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال، والحاصل أنه إن وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله عيسى ابن مريم عليهما السلام فلم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: إن بين يدي الساعة دجالين كذابين، وقصة تميم الداري أخرجها مسلم من حديث فاطمة بنت قيس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب فذكر أن تميمًا الداري ركب في سفينة مع ثلاثين رجلاً من قومه فلعب بهم الموج شهرًا ثم نزلوا في جزيرة فلقيتهم دابة كثيرة الشعر فقالت لهم: أنا الجساسة ودلتهم على رجل في
الدير قال: فانطلقنا سراعًا فدخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقًا وأشد وثاقًا مجموعة يداه إلى عنقه بالحديد فقلنا: ويلك من أنت فذكر الحديث وفيه أنه سألهم عن نبي الأميين هل بعث وأنه قال إن يطيعوه فهو خير لهم وأنه سألهم عن بحيرة طبرية وأنه قال لهم إني مخبركم عني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، ففيه كما قال البيهقي أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وعند مسلم من طريق داود بن أبي هند عن أبي بصرة عن أبي سعيد قال: صحبني ابن صياد إلى مكة فقال لي: ما قد لقيت من الناس يزعمون أني الدجال ألست سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إنه لا يولد له"؟! قلت: بلى. قال: فإنه قد ولد لي. قال: أوَلست سمعته يقول: "لا يدخل المدينة ولا مكة"؟! قلت: بلى. قال: قد ولدت بالمدينة وها أنا أريد مكة.
وقال الخطابي اختلف السلف في أمر ابن صياد بعد كبره فروي عنه أنه تاب عن ذلك القول ومات بالمدينة وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس، وقيل لهم اشهدوا لكن يعكر على هذا ما عند أبي داود بسند صحيح عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرّة وبسند حسن قيل إنه مات. وفي الحديث جواز الحلف بما يغلب على الظن.
والحديث أخرجه مسلم في الفتن وأبو داود في الملاحم.
٢٤ - باب الأَحْكَامِ الَّتِى تُعْرَفُ بِالدَّلَائِلِ وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلَالَةِ وَتَفْسِيرِهَا؟
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْحُمُرِ فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧] وَسُئِلَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الضَّبِّ فَقَالَ: «لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ». وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الضَّبُّ فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ.
(باب) بيان (الأحكام التي تعرف بالدلائل) ولأبي ذر عن الكشميهني بالدليل بالإفراد والدليل ما يرشد إلى المطلوب ويلزم من العلم به العلم بوجود المدلول