وهو بمكة فقال قوم: لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس ثم نسخ، وقال البيضاوي في تفسير قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: ١٤٣] أي الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة. فإنه كان عليه الصلاة والسلام يصلي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفًا لليهود. وقال قوم: كان لبيت المقدس فروى ابن ماجة حديث صلينا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرًا وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين، وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضًا. وعن ابن عباس كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه. قال البيضاوي: فالمخبر به على الأول الجعل الناسخ، وعلى الثاني المنسوخ، والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وما جعلنا قبلتك بيت المقدس اهـ.
وفي هذا الحديث جواز نسخ الأحكام خلافًا لليهود وبخبر الواحد، وإليه مال القاضي أبو بكر وغيره من المحققين وجواز الاجتهاد في القبلة، وبيان شرفه عليه الصلاة والسلام وكرامته على ربه لإعطائه له ما أحب والرد على المرجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانًا. ورواة الحديث السابق
أئمة أجلاء أربعة، وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة والتفسير وفي خبر الواحد والنسائي والترمذي وابن ماجة.
٣١ - باب حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ
هذا (باب حسن إسلام المرء) بإضافة باب لتاليه وباب ساقط عند الأصيلي.
٤١ - قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلَاّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا».
وبالسند إلى المؤلف قال (قال مالك) وللأصيلي وقال مالك ولابن عساكر في نسخة قال: وقال مالك يعني ابن أنس إمام دار الهجرة (أخبرني زيد بن أسلم) أو أسامة القرشي المكي مولى عمر بن الخطاب (أن عطاء بن يسار) بفتح المثناة التحتية والسين المهملة أبا محمد المدني مولى أم المؤمنين ميمونة (أخبره أن أبا سعيد الخدري) بالدال المهملة رضي الله عنه (أخبره أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يقول) بالمضارع حكاية حال ماضية.
(إذا أسلم العبد) أو الأمة وذكر المذكر فقط تغليبًا (فحسن إسلامه) أو إسلامها بأمن دخلا فيه بريئين من الشكوك أو المراد المبالغة في الإخلاص بالمراقبة (يكفر الله عنه) وعنها (كل سيئة كان زلفها) بتخفيف اللام المفتوحة وبه قرئ على الحافظ المنذري وغيره، ولأبي الوقت زلفها بتشديدها وعزاه في التنقيح للأصيلي، ولأبي ذر مما ليس في اليونينية أزلفها بزيادة همزة مفتوحة وهما بمعنى كما قاله الخطابي وغيره أي أسلفها وقدمها، وفي فرع اليونينية كهي أسلفها بالهمزة والسين لأبي ذر والتكفير هو التغطية وهو في المعاصي كالإحباط في الطاعات. وقال الزمحشري: التكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب زائد والرواية في يكفر بالرفع، ويجوز الجزم لأن فعل الشرط ماضٍ وجوابه مضارع، وقول الحافظ ابن حجر في الفتح بضم الراء لأن إذا وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم تعقبه العيني فقال: هذا كلام من لم يشم شيئاً من العربية وقد قال الشاعر:
استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتحمل فجزم إذا تصبك انتهى. قلت: قال ابن هشام في مغنيه: ولا تعمل إذا الجزم إلا في الضرورة كقوله: استغن ما أغناك الخ. قال الرضي لما كان حدث إذا الواقع فيه مقطوعًا به في أصل الوضع لم يرسخ فيه معنى أن الدّال على الفرض بل صار عارضًا على شرف الزوال، فلهذا لم تجزم إلا في الشعر مع إرادة معنى الشرط وكونه بمعنى متى (وكان بعد ذلك) أي بعد حسن الإسلام (القصاص) بالرفع اسم كان على أنها ناقصة أو فاعل على أنها تامّة، وعبّر بالماضي وإن كان السياق يقتضي
المضارع لتحقق الوقوع كما في نحو قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: ٤٤] والمعنى وكتابة المجازاة في الدنيا (الحسنة) بالرفع مبتدأ وخبره (بعشر) أي تكتب أو تثبت بعشر (أمثالها) حال كونها منتهية (إلى سبعمائة ضعف) بكسر الضاد والضعف المثل إلى ما زاد، ويقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة