وكأنّ أجرام النجوم لوامعًا ... درر نشرن على بساط أزرق
لو قلت: كان النجوم درر وكأن السماء بساط أزرق كان التشبيه مقبولاً، لكن أين هو من التشبيه الذي يريك الهيئة التي تملأ النواظر عجبًا وتستوقف العيون وتستنطق القلوب بذكر الله من طوع النجوم مؤتلفة متفرقة في أديم السماء وهي زرقاء زرقتها بحسب الرؤية صافية والنجوم تبرق وتلألأ في أثناء تلك الزرقة؟ ومن لك بهذه الصورة إذا جعلت التشبيه مفردًا، وقد وقع في الحديث أنه شبه من انتفع بالعلم في خاصة نفسه ولم ينفع به أحدًا بأرض أمسكت الماء ولم تنبت شيئًا، أو شبه انتفاعه المجرد بإمساك الأرض للماء مع عدم إنباتها، وشبه من عدم فضيلتي النفع والانتفاع جميعًا بأرض لم تمسك ماء أصلاً، أو شبه فوات ذلك له بعدم إمساكها الماء، وهذه الحالات الثلاث مستوفية لأقسام الناس ففيه من البديع التقسيم.
فإن قلت: ليس في الحديث تعرض إلى القسم الثاني، وذلك أنه قال: فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم وهذا القسم الأوّل، ثم قال: ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به وهذا هو القسم الثالث، فأين الثاني؟ أجيب: فاحتمال أن يكون ذكر من الأقسام أعلاها وأدناها وطوى ذكر ما بينهما لفهمه من أقسام المشبه به المذكورة أوّلاً، ويحتمل أن يكون قوله نفعه الخ صلة موصول محذوف معطوف على الوصول الأوّل أي: فذلك مثل من فقه في دين الله، ومثل من نفعه كقول حسان رضي الله عنه:
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
أي: ومن يمدحه وينصره سواء، وعلى هذا فتكون الأقسام الثلاثة مذكورة فمن فقه في دين الله هو الثاني، ومن نفعه الله من ذلك فعلم وعلم والأوّل، ومن يرفع بذك رأسًا هو الثالث، وفيه حينئذ لف ونشر غير مرتب انتهى.
وقال غيره: شبه عليه الصلاة والسلام ما جاء به من الدين بالغيث العامّ الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت، فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأراضى المختلفة التي ينزل يها الغيث. وهذا الحديث فيه التحديث والعنعنة، ورواته كلهم كوفيون، وأخرجه المؤلف هنا فقط، ومسلم في فضائله -صلى لله عليه وسلم-، والنسائي في العلم.
(قال أبو عبد الله) أي البخاري، وفي رواية غير الأصيلي وابن عساكر بحذف ذلك (قال إسحاق) بن إبراهيم بن مخلد بفتح الميم وسكون الخاء وفتح اللام الحنظلي المروزي المشهور بابن
راهويه، المتوفى بنيسابور سنة ثمان وثلاثين ومائتين وهذا هو الظاهر لأنه إذا وقع في هذا الكتاب إسحاق غير منسوب فهو كما قاله الجياني عن ابن السكن يكون ابن راهويه في روايته عن أبي أسامة، (وكان منها طائفة قيلت الماء) بالمثناة التحتية المشددة بدل قوله قبلت بالموحدة، وجزم الأصيلي بأنها تصحيف من إسحاق وصوّبها غيره والمعنى شربت القيل وهو شرب نصف النهار وزاد في رواية المستملي هنا (قاع) أي أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع أرض (يعلوه الماء) ولا يستقرّ فيه، (والصفصف المستوي من الأرض) هذا ليس في الحديث، وإنما ذكره جريًا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وعند ابن عساكر بعد قيلت الماء والصفصف المستوي من الأرض.
٢١ - باب رَفْعِ الْعِلْمِ، وَظُهُورِ الْجَهْلِ.
وَقَالَ رَبِيعَةُ: لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَىْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ
(باب رفع العلم وظهور الجهل) الأوّل مستلزم للثاني وأتى به للإيضاح (وقال ربيعة) الرأي بالهمزة الساكنة ابن أبي عبد الرحمن المدني التابعي شيخ إمام الأئمة مالك، المتوفى بالمدينة سنة ست وثلاثين ومائة، وإنما قيل له الرأي لكثرة اشتغاله بالرأي والاجتهاد، ومقول قوله الموصول عند الخطيب في جامعه والبيهقي في مدخله (لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم) أي الفهم (أن يضيع نفسه) بترك الاشتغال أو بعدم إفادته لأهله لئلا يموت العلم فيؤدي ذلك إلى رفع العلم المستلزم لظهور الجهل، وفي رواية الأربعة يضيع نفسه بحذف أن.
٨٠ - حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا». [الحديث ٨٠ - أطرافه في: ٨١، ٥٢٣١، ٥٥٧٧، ٦٨٠٨].
وبالسند السابق إلى المؤلف قال: (حدّثنا عمران بن ميسرة) ضد الميمنة المنقري