قال في القاموس: الصرف في الحديث التوبة والعدل الفدية أو هو النافلة والعدل الفريضة أو بالعكس أو هو الوزن والعدل الكيل أو هو الاكتساب والعدل الفدية أو الحيلة ومنه: {فما يستطيعون صرفًا ولا نصرًا} [الفرقان: ١٩] معناه فما يستطيعون أن يصرفوا عن أنفسهم العذاب اهـ.
وقال البيضاوي: الصرف الشفاعة والعدل الفدية. وقال عياض: معناه لا يقبل منه قبول رضا وإن قبل منه قبول جزاء، وقد يكون معنى الفدية لا يجد في القيامة فداء يفتدى به بخلاف غيره من المذنبين الذين يتفضل الله عز وجل على من يشاء منهم بأن يفديه من النار بيهودي أو نصراني كما في الصحيح.
(وقال: ذمة المسلمين واحدة) أي أمانهم صحيح سواء صدر من واحد أو أكثر شريف أو وضيع، فإذا أمن الكافر واحد منهم بشروطه المعروفة في كتب الفقه لم يكن لأحد نقضه (فمن أخفر مسلمًا) بهمزة مفتوحة فمعجمة ساكنة ففاء ثم راء أي نقض عهد السلم أو ذمامه (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولى قومًا) أي اتخذهم أولياء (بغير إذن مواليه) ليس بشرط لتقييد الحكم بعدم الإذن وقصره عليه، وإنما هو إيراد الكلام على ما هو الغالب أو المراد موالاة الحلف فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن، وبالجملة فإن أريد ولاء الحلف فهو سائغ وإن أريد ولاء العتق فلا مفهوم له وإنما هو للتنبيه على المانع وهو إبطال حق الموالي (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل).
قال النووي: وفي هذا الحديث إبطال ما يزعمه الشيعة ويفترونه من قوله أن عليًا -رضي الله عنه- أوصي إليه بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين، وأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خص أهل البيت بما لم يطلع عليه غيرهم فهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة وفيه دليل على جواز كتابة العلم.
(قال أبو عبد الله) البخاري: (عدل) أي (فداء) وهذا تفسير الأصمعي، وسقط قوله قال أبو عبد الله الخ في غير رواية أبي ذر عن المستملي.
وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة وثلاثة من التابعين في نسق واحد ورواته كلهم كوفيون إلا شيخه وشيخ شيخه فبصريان.
٢ - باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ
(باب فضل المدينة وأنها تنفي الناس) أي شرارهم، وسقط لابن عساكر وأنها تنفي الناس.
١٨٧١ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهْيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك الإمام) عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (قال: سمعت أبا الحباب) بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحدة الأولى (سعيد بن يسار) بالمهملة المخففة (يقول: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول، قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أمرت بقرية) بضم الهمزة أي أمرني ربي بالهجرة إلى قرية (تأكل القرى) أي تغلبها وتظهر عليها يعني أن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها يقال: أكلنا بني فلان أي غلبناهم وظهرنا عليهم فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الآكل إياه، وفي موطأ ابن وهب قلت لمالك: ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى. وقال ابن المنير في الحاشية، قال السهيلي في التوراة يقول الله: يا طابة يا مسكينة إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى وهو قريب من قوله: أمرت بقرية تأكل القرى لأنها إذا علت عليها علوّ الغلبة أكلتها، أو يكون المراد يأكل فضلها الفضائل أي يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها فهو المراد بأكل.
وقد جاء في مكة أنها أم القرى كما جاء في المدينة تأكل القرى، لكن المذكور للمدينة أبلغ من المذكور لمكة لأن المأمومة لا يمحى بوجودها وجود ما هي أمّ له، لكن يكون حق الأم أظهر. وأما قوله: تأكل القرى فمعناه أن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكاد تكون عد ما، وما يضمحل له الفضائل أعظم وأفضل مما تبقى معه الفضائل اهـ.
وهو ينزع إلى تفضيل المدينة على مكة. قال المهلب: لأن المدينة هي التي أدخلت مكة وغيرها من القرى في الإسلام فصار الجميع في صحائف أهلها.
وأجيب: بأن أهل المدينة الذين فتحوا مكة معظمهم من أهل مكة فالفضل ثابت للفريقين، ولا يلزم من ذلك تفضيل إحدى البقعتين.
وقد استنبط ابن أبي جمرة من قوله عليه