أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنّا. قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك. وفي حديث أبي اليسر من أنظر معسرًا أو وضع له أظلّه الله في ظل عرشه وقد أمر الله تعالى بالصبر على المعسر فقال: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: ٢٨٠] أي فعليكم تأخير إلى ميسرة لا كفعل الجاهلية إذا حلّ الدين يطالب إما بالقضاء وإما بالربا فمتى علم صاحب الحق عسر المديان حرمت عليه مطالبته وإن لم يثبت عسره عند الحاكم، وقد حكى القرافي وغيره أن إبراءه أفضل من إنظاره وجعلوا ذلك مما استثني من قاعدة كون الفرض أفضل من النافلة وذلك أن إنظاره واجب وإبراءه مستحب، وقد انفصل عنه الشيخ تقيّ الدين السبكي بأن الإبراء يشتمل على الإنظار اشتمال الأخص على الأعم لكونه تأخيرًا للمطالبة فلم يفضل مندوب واجبًا وإنما فضل واجب وهو الإنظار الذي تضمنه الإبراء وزيادة وهو خصوص الإبراء واجبًا آخر وهو مجرد الأنظار، ونازعه ولده التاج في الأشباه والنظائر في ذلك فقال: وقد يقال الإنظار هو تأخير الطلب مع بقاء العلقة والإبراء زوال العلقة فهما قسمان لا يشتمل أحدًا على الآخر، فينبغي أن يقال إن الإبراء يحصل مقصود الإنظار وزيادة قال: وهذا كله بتقدير تسليم أن الإبراء أفضل، وغاية ما استدل به عليه بقوله تعالى: {وأن تصدقوا خير لكم} [البقرة: ٢٨٠] وهذا يحتمل أن يكون افتتاح كلام فلا يكون دليلاً على أن الإبراء أفضل ويتطرّق من هذا إلى أن الإنظار أفضل لشدة ما يقاسيه المنظر من ألم الصبر مع تشوّف القلب، وهذا فضل ليس في الإبراء الذي انقطع فيه اليأس فحصلت فيه راحة
من هذه الحيثية ليست في الإنظار، ومن ثم قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أنظر معسرًا كان له بكل يوم صدقة" رواه أحمد. فانظر كيف وزع أجره على الأيام يكثر بكثرتها ويقل بقلتها ولعل سره ما أبديناه فالمنظر ينال كل يوم عوضًا جديدًا ولا يخفى أن هذا لا يقع بالإبراء فإن أجره وإن وافرًا لكنه ينتهي بنهايته انتهى.
١٩ - باب إِذَا بَيَّنَ الْبَيِّعَانِ، وَلَمْ يَكْتُمَا، وَنَصَحَا
وَيُذْكَرُ عَنِ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كَتَبَ لِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ بَيْعَ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَ، لَا دَاءَ وَلَا خِبْثَةَ وَلَا غَائِلَةَ». وَقَالَ قَتَادَةُ: الْغَائِلَةُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالإِبَاقُ.
وَقِيلَ لإِبْرَاهِيمَ: إِنَّ بَعْضَ النَّخَّاسِينَ يُسَمِّي: آرِيَّ خُرَاسَانَ، وَسِجِسْتَانَ. فَيَقُولُ: جَاءَ أَمْسِ مِنْ خُرَاسَانَ، جَاءَ الْيَوْمَ مِنْ سِجِسْتَانَ. فَكَرِهَهُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً.
وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: لَا يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ أَنَّ بِهَا دَاءً إِلَاّ أَخْبَرَهُ.
هذا (باب) بالتنوين (إذا بين البيعان) بفتح الموحدة وتشديد التحتانية المكسورة أي إذا أظهر البائع والمشتري ما في البيع من العيب (ولم يكتما) ما فيه من العيب (ونصحا) من عطف العام على الخاص وجواب إذا محذوف للعلم به وتقديره بورك لهما في بيعهما.
(ويذكر) بضم أوله وفتح ثالثه (عن العدّاء) بفتح العين والدال المشددة المهملتين ممدودًا (ابن خالد) واسم جدّه هوذة بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة الصحابي أسلم بعد حنين أنه (قال: كتب لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا ما اشترى محمد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العداء بن خالد) قال القاضي عياض هذا مقلوب، والصواب كما في الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن منده موصولاً لأن المشتري العداء من محمد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو الذي في البخاري صواب غير منافٍ لباقي الروايات لأن اشترى يكون بمعنى باع، وحمله في المصابيح على تعدّد الواقعة وحينئذ فلا تعارض (بيع المسلم المسلم) برفع بيع خبر مبتدأ محذوف أي هو بيع المسلم وبالنصب على أنه مصدر من غير فعله لأن معنى البيع والشراء متقاربان أو منصوب بنزع الخافض أي كبيع المسلم والمسلم الثاني منصوب بالمصدر وهو بيع، وليس المراد به أنه إذا بايع ذميًّا يغشه بل هذا مبايعة المسلمين مطلقًا لا يغش مسلمًا ولا غيره، ولأبي ذر عن الكشميهني من المسلم (لا داء) أي لا عيب والمراد به العيب الباطن سواء ظهر منه شيء أم لا كوجع الكبد والسعال. وقال ابن المنير: قوله لا داء أي يكتمه البائع وإلا فلو كان بالعبد داء وبيّنه البائع لكان من بيع المسلم المسلم ومحصله كما قاله في الفتح إنه لم يرد بقوله لا داء نفي الداء مطلقًا بل نفي داء مخصوص وهو ما لم يطلع عليه، (ولا خبثة) بكسر الخاء المعجمة وضمها وإسكان الموحدة ثم مثلثة مفتوحة أي لا مسببًّا من قوم لهم عهد أو المراد الأخلاق الخبيثة كالإباق أو الحرام كما عبر
عن الحلال بالطيب وللكشميهني: ولا خبية (ولا غائلة) بالغين المعجمة والهمزة أي لا فجور وأصله من الغول أي الهلاك.
(وقال قتادة) فيما وصله ابن منده من طريق الأصمعي عن سعيد بن أبي عروبة عنه (الغائلة الزنا