للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة الرجل البار بوالديه]

قال: [(قال أحدهم -وهو الأول-: اللهم إنه كان لي أبوان)]، يطلق على الأب والأم أبوان من باب التغليب، كما يطلق العمران على أبي بكر وعمر وكذا الشيخان على أبي بكر وعمر، والقمران للشمس والقمر.

[(شيخان كبيران)] وهذا من باب التغليب كذلك؛ لأن الأم لا يقال لها شيخة وإنما يقال لها: عجوز، كما لا يقال للرجل: عجوز وإنما يقال له: شيخ [(وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم)] يعني: أقوم على أمر رعايتهم وإطعامهم وغير ذلك مما يلزمهم.

فهذا الرجل كان متكفلاً بوالديه وبامرأته وأولاده الصغار.

قال: [(فإذا أرحت عليهم)] أي: فإذا روحت إليهم في نهاية اليوم بعد رعيي للغنم.

[(حلبت)] أي: حلبت الغبوق، والغبوق إنما يقال لشراب الليل، بخلاف الصبوح؛ فإنه يقال لشراب الصباح صبوحاً، فاللبن يسمى في المساء غبوقاً ويسمى في الصباح صبوحاً.

[(قال: فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني)] يبدأ بوالديه يسقيهما قبل أن يسقي أولاده [(وأنه نأى بي ذات يوم الشجر)] أي: بعد بي مكان الرعي، لأنه لم يجد للمرعى والخضرة ليرعى فيه سائمته إلا في مكان بعيد جداً، فلما بعد به المكان رجع متأخراً وإذا بوالديه قد ناما.

[(فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب)] على عادته [(فجئت بالحلاب أو المحلاب)] وهو الإناء الذي يحلب فيه.

أما اللبن فهو الحلاب أو المحلوب.

قال: [(فقمت عند رءوسهما فكرهت أن أوقظهما من نومهما)] أي: فقام الرجل عند رأسي والديه انتظاراً لاستيقاظهما، وكره إيقاظهما؛ لأن المرء إذا نام يكره أن يوقظ قبل موعد استيقاظه.

فهذا الرجل لما علم كراهة والديه أن يوقظا في غير موعد قد اعتادا أن يستيقظا فيه كره هو كذلك أن يفزعهما بالاستيقاظ في غير موعد يقظتهما.

قال: [(وأكره أن أسقي الصبية قبلهما)] ويكره في الوقت نفسه أن يسبق أبناءه بالشرب قبل والديه.

[(والصبية يتضاغون عند قدمي)] يتضاغون أي: يبكون ويصيحون عند قدميه، ربما يكون هذا من شدة الجوع، وربما يكون من غير جوع، وأنتم تعلمون أن الصبية إنما يبكون أحياناً بغير سبب، وأحياناً يبكون بسبب، وربما يكون هذا الوالد قد سقاهم ما يكفيهم من جهة سد الرمق ولكن أراد الأولاد أن يشربوا مزيداً عن الحاجة ومزيداً عن سد الرمق.

على أية حال: هذا كلام أهل العلم، وربما يكون مقبولاً أو لا يكون مقبولاً عند البعض.

قال: [(فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر)] يعني: لا يزال الوضع على هذا النحو أكره أن أوقظهم وأكره أن أسقي أولادي قبلهم، والأولاد يبكون ويتضاغون حتى انفلق الفجر.

[(فإن كنت)] وهو يخاطب الله عز وجل.

[(تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.

ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء غير أنهم لا يستطيعون الخروج)].

هذه القصة فيها فضيلة بر الوالدين، وفيها كذلك فضيلة من قام بحسن الرعاية لمن يعولهم، لأن هذا الرجل كان دأبه أن يسرح في أول النهار وأن يروح في آخر النهار يحلب الشاة أو البقر أو الغنم ويسقي والديه وأبنائه.