يذكر أن سفيان الثوري رحمه الله أرسل إليه الوالي ليعطيه القضاء، فامتنع سفيان، فحمله الوالي على المجيء فجاء ودخل مجلس الوالي، فطلبوا منه أن يتولى القضاء، فقام سفيان بأفعال غريبة حتى سال لعابه من فمه؛ ليظن الحاضرون أنه معتوه، وأنه لا يفهم شيئاً، فقال له الأمير: مهما عملت لابد أن تتولى القضاء، فلما حمله على ذلك قال له: دعني أستخير وأستشير وأرد عليك، قال: سترجع إلينا ثانية؟ قال: سأرجع، فخرج من مجلس الأمير وترك نعله، ثم عاد فأخذ نعله وانصرف، فتنبه أحد العلماء الحاضرين لذلك فقال: لن يرجع إليك أيها الأمير! قال: ولم؟ قال: إنه وعدك بأن يرجع، وقد ترك نعله في المجلس فرجع كما وعدك وأخذه، فلن يرجع إلى هنا مرة أخرى.
وأبو حنيفة رحمه الله جلد بسبب رفضه للقضاء سبع مرات.
أما اليوم فانظروا إلى السفهاء والحمقى والمغفلين الذين يدفعون آلافاً، بل ملايين الجنيهات من أجل أن يتولوا منصب القضاء وهم لا يُحسنون أن يقضوا في شعيرة أو في حزمة جرجير، ومع هذا يفتون في الدماء والأموال والأعراض، ويتولون القضاء مع سكرهم وعربدتهم وسلوكهم المنحرف، ومجالسهم كلها مشبوهة، وأعمالهم كلها مبنية على الرشوات، ومع هذا يدفعون الآلاف والملايين لأجل الحصول على كرسي ذي رجلين أو ثلاثة لا أقول أربعة، وإنما كرسي مكسر، يريدون أن يكونوا قضاة، حتى ولو كان العمل حقيراً مرذولاً، وفرق بين كون هذا العمل حقاً لك تسعى للحصول عليه، ولا سبيل إليه إلا بالمال، أو تدفع المال لترد ولا سبيل لرفعه إلا بالمال، أما أن تكون عالماً بأن هذا المكان لست أهلاً له ثم تسعى إليه فهذا جرم عظيم وكبيرة من الكبائر؛ فإنه لا يجوز لأحد قط أن يسعى لولاية إلا إذا رأى عجز الناس عنها، ورأى من نفسه رشداً في ذلك، فإن يوسف عليه السلام:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف:٥٥]، أي: اجعلني وزير المال، فإنه لا أحد في ولايتك ولا في إمامتك يستطيع أن يقوم بهذه المهمة، وأنا على خبرة بذلك، فأنا أهل لذلك المنصب.