أيضاً: هناك سببان آخران لإجلاء عمر لليهود من خيبر: الأول: رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ما زال عمر حتى وجد الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن عمر لم يجلهم حتى ثبت لديه يقيناً بغير شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع بجزيرة العرب دينان) فقال: من كان له من أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه له.
يعني: أعطه وأوفه حقه، وإلا فإني مجليكم فأجلاهم.
وهذا الحديث عند ابن أبي شيبة بسند صحيح.
الثاني: رواه عمر بن شبة -في كتابه العظيم: أخبار المدينة المنورة- من طريق عثمان بن محمد الأحمسي قال: لما كثر العيال -أي: الخدم والموالي والعبيد- في أيدي المسلمين، وقووا على العمل أجلى عمر رضي الله عنه اليهود إلى الشام وقسم المال بين المسلمين إلى اليوم.
يعني: بعد فتح خيبر لم يكن هناك من يزرعها ولا من يستثمرها، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فيها على اعتبار أن يكون له نصف الثمر ولهم النصف في مقابل الزرع والكلفة حتى لا تبور الأرض، لكن حينما زالت هذه العلة وكثر العبيد والموالي ومن دخلوا في الإسلام ممن يمكن أن يعمل في الأرض ويزرع، وله شيء من الثمر -قام عمر بن الخطاب وأجلى اليهود، ويُحتمل أن يكون كل من هذه الأشياء جزء علة في إخراجه، والإجلاء: هو الإخراج عن المال والوطن على وجه الإزعاج والكراهة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها، فقال: ابن أبي الحقيق: لا تخرجنا ودعنا كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال له عمر: أتراه سقط علي، أي: أتراني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا ابن أبي الحقيق! إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوماً ثم يوماً ثم يوماً) يعني: أخذتك ناحية الشام.
فقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية.
وفي هذا الحديث كما قال المهلب: دليل على أن العداوة توضح المطالبة بالجناية، كما طالب عمر اليهود بفدع ابنه عبد الله، ورجح ذلك بأن قال: ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة، وإنما لم يطلب القصاص؛ لأن هذا مبني على الظن، والظن اعتمد على قرينة، وهذه القرينة أفادت عند عمر وجوب الإجلاء مع غير ذلك من الأدلة؛ لأنه لا عدو لهم في هذا البلد إلا اليهود، ولم يطالب بالقصاص، لأنه ليس عنده يقين أن فلاناً من اليهود هو الذي فدع ولده، فقد فُدع ولده عبد الله وهو نائم في الليل، فلم يعرف أشخاصهم، ولكنه رضي الله عنه طالب بالإجلاء.
وفيه: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله محمولة على الحقيقة حتى يقوم دليل على المجاز.