للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جهود الإمام مسلم في تصنيف صحيحه]

يقول أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم في تأليف صحيحه (١٥) سنة، انظروا إلى هذا العمر وهذا الزمان الذي ألّف فيه مسلم الصحيح، فهو لم يتعجل كما يتعجل الكثيرون، فإن بعض المطابع تخرج علينا في كل يوم بعشرات بل مئات، ولا أكون مبالغاً إن قلت بآلاف الكتب والمجلات والصحف التي تلقى بين الناس، والناس يقرءون، وربما وجدت هذه الكتب والمصنفات قلوباً خاوية خالية فتمكنت منها، وكثير من القراء يقرءون كتباً لا يعرفون ضررها من مصلحتها ونفعها، فإذا قرأ كتاباً يقول: كيف يرده؟ ولذلك أنت تسمع كثيراً من الطلاب إذا قلت لهم هذا الكتاب فيه خطأ.

الصفحة الفلانية أو السطر الفلاني يقول: كيف يكون كتاباً وفيه خطأ؟ وهذا أمر طبيعي؛ لأن الناشرين -إلا من رحم الله- فقدوا التقوى أو قلت عندهم، فجُّل همهم تحصيل المال والشهرة، فهم يدفعون بالكتاب قبل أن يستوي عوده لأجل تحصيل المال، لا يهمهم نشر العلم الصحيح ولا نفع المسلمين ولا غير ذلك.

يقول: ألّف هذا الكتاب من (١٢.

٠٠٠) حديث، أي: أن مجموع ما في صحيح الإمام مسلم من الأحاديث (١٢.

٠٠٠) حديث، هذا بالمكرر، ومعنى المكرر: أنه إذا كان للإمام المصنّف كالإمام مسلم عشرة شيوخ في رواية الحديث الواحد يُعد هذا الحديث عشرة أحاديث، وهو في الحقيقة حديث واحد، ولكن هذا التعداد الكثير إنما هو تعداد على حسب شيوخ الإمام في روايته لهذا الحديث، وهو بغير المكرر لم يبلغ الأربعة آلاف، وكذلك الإمام البخاري.

فالإمام مسلم عليه رحمة الله انتقى هذه الأحاديث من بين (٣٠٠.

٠٠٠) حديث، وهذا هدي العلماء تحت قاعدة التقميش والتفتيش، والتقميش هو التجميع، ثم التفتيش وهو الانتقاء، فكان الواحد منهم إذا طلب العلم كتب كل شيء يسمعه الغث والسمين، الجيد والرديء، ولكنه إذا انتصب للتدريس انتقى حديثه، وإذا انتصب للتصنيف انتقى حديثه، فالإمام مسلم انتقى (١٢.

٠٠٠) حديث من (٣٠٠.

٠٠٠) حديث، وكيف لا وقد فعل شيخه أحمد بن حنبل مثل فعله، فقال الإمام أحمد: انتقيت هذا المسند وهو لم يبلغ (٣٠.

٠٠٠)، وقيل بالمكرر أيضاً: (٤٠.

٠٠٠) أو (٤٢.

٠٠٠)، قيل: إنه انتقاها من بين (٧٥٠.

٠٠٠) حديث، فهذا هدي العلماء عندما يطلبون العلم، يكتبون كل شيء، فإذا أرادوا أن يصنفوا أو يعلموا غيرهم انتقوا علمهم.

قال الإمام مسلم عليه رحمة الله: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة، فكل ما أشار عليّ في هذا الكتاب أن له علة وسبباً تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة فهو الذي أخرجت.

هذا الكلام نستطيع أن نستفيد منه أنه ينبغي لطالب العلم أن يكون له شيخ يرجع إليه، فما يقره الشيخ له كان هذا هو الذي يعتمد عليه الطالب، وإذا أنكر منه شيخه شيئاً كان ينبغي للطالب أن يُنكره أيضاً، فالإمام مسلم لم يصنّف كتاباً ثم يذهب سريعاً إلى المطابع ثم ينشره، وإنما كان حرصه أن يخرج العلم الصحيح الذي ليس فيه علة ولا سبب قادح للمسلمين، وبناء على ذلك كان أول شيء فكّر فيه أن يعرض صحيحه على العلماء الأفذاذ، فعرضه على أبي زرعة، فالذي أنكره أبو زرعة في الصحيح أخّره مسلم، والذي استبقاه في الصحيح أبقاه مسلم.

قال الإمام مسلم: ولو أن أهل الحديث كتبوا الحديث مئتي سنة فمدارهم على هذا المسند.

وهذا نص من الإمام يبيّن لك فائدة الصحيح، كما قال أيضاً من قبله شيخه الإمام أحمد بن حنبل لولده عبد الله: يا بني! احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إماماً.

وكذلك قال ابن الأعرابي عن سنن أبي داود وهو كتاب مخصوص في الأحكام فقط، فهو أعظم مصنّف في الإسلام في باب الأحكام.

قال ابن الأعرابي: لو لم يكن في بيتك إلا كتاب الله تعالى الذي فيه كلامه وهذه السنن لكفاك، فهناك كلمات نستشعر منها عظمة المصنَّف.

كما أنه ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل، ومع استمرارنا في هذا الدرس سنبيّن ما هو الحديث العالي وما هو الحديث النازل؟ فعوالي الإمام مسلم قليلة، مما جعل الحفاظ يعمدون إلى أحاديث الكتاب، فيخّرجون عليها المستخرجات، والمستخرج هو: أن يعمد إمام إلى أحاديث كتاب من الكتب فيأتي بها بإسناد من غير طريق المصنِّف.

فإذا كان الإمام مسلم روى حديثاً عن يحيى بن يحيى التميمي عن مالك فأراد أحد الأئمة أن يعمل لهذا الحديث مستخرجاً أو أن يدخله في مستخرجه فإنه يأتي به من طريق مالك من غير طريق مسلم، ولو كان مداره على رواية مسلم عن يحيى لما سُمّي مستخرجاً.

فقلة العوالي في صحيح الإمام مسلم جعلت بعض الأئمة ي