للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استشعار الآخرة وقرب الأجل عند أداء مناسك الحج]

والنسك ثلاثة أنواع: تمتع، وإفراد، وقران، والإفراد أن تنوي أداء نسك الحج فقط، والذي يريد أن يحج دون أن يعتمر فإنه يحرم من الميقات من رابغ ثم يدخل مكة يطوف حول الكعبة ويسعى بين الصفاء والمروة، فهذه المسائل العملية لا يمكن أن تفهم ولا تركب في العقل إلا بالتطبيق، فهو يفرد الحج دون العمرة، وهذا الطواف يسمى طواف القدوم، وليس له علاقة بالعمرة، فلا يسقط عنه طواف الإفاضة في اليوم العاشر.

وملابس الإحرام تذكر الواحد بأصله أو بمبدئه ومنتهاه، فهي تذكره بيوم ميلاده حين ولد في خرقة، وتذكره بوفاته حين يكفن في خرقة.

وأما هذا الحشر في عرفة أو في منى أو المزدلفة أو في بيت الله الحرام أو يوم النحر إنما يذكرك بالحشر يوم القيامة، ومن لم يعتبر بهذه المعاني كلها في حجه فإنه يرجع إلى ما كان عليه قبل الحج وزيادة، فالسارق يرجع سارقاً، ونصاباً، ومحتالاً، والكذاب يرجع مثل حالته، لكن إذا ذهب من هنا ليجدد العهد والميثاق مع الله عز وجل، خاصة وأن الله وحده هو الذي يغفر له ما تقدم من ذنبه، وأنه يرجع من ذنبه كيوم ولدته أمه، وهذه فرصة ربنا أعطاها لك وأنت لا تدري، ربما لا تتيسر لك مرة أخرى.

فإن رجعت على هذا النحو مستبشراً برحمة الله ومغفرته وقبول توبتك والعفو عن ذنبك، فيلزمك أن تحاسب نفسك على أقوالك وأفعالك وأخلاقك، وتبقى سمحاً كريماً، وتتمثل أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنك لا تدري أتحج مرة ثانية أم لا؟ يغفر لك ذنبك أم يؤاخذك الله عز وجل؟ فهناك معاني لابد أن تفكر فيها، هذه المعاني تلزم المرء في كل حياته بالشرع، وأنت في كل فترة تقوم بتشييع الجنازة، ربما يغسلونك في المقبرة، ويصلون عليك، ويدفنونك بجوار الميت، ويقبرونكما في وقت واحد، ولا يغلقون القبر إلا عليكما سوياً.

ومع هذا أنت تقول: أنا ما زلت شاباً، وتنسى أن الذي تدفنه طفل لم يبلغ مرحلة من الشباب أو الفتوة، فلو كنت فعلاً تمشي في الجنازة فعليك أن توقن بأنك لا ترجع إلى بيتك وإلى أهلك، نحن ممكن نخرج من المسجد وتصدمنا سيارة، فنحن طلاب علم في مسجد الرحمة وبعد خمس دقائق من خروجنا يقال فينا: الله يرحمنا، فلابد أن الإنسان فعلاً يستشعر عظمة الله عز وجل في كل لحظة من لحظات حياته.

وكان أحد السلف رضي الله عنهم يقول: لو أن الله عز وجل أخبرني بأن ساعتي غداً ما زدت في عملي شيئاً، لأنه اجتهد في أصل عبادته لله عز وجل على أحسن وجه وأكمله، إنما لو أن الواحد منا قيل له: إن ساعتك غداً، فإنه يبيت الليل يفكر في كل شيء، يراجع حساباته في كل جانب، ليس عندنا الاستعداد الذي كان عند أسلافنا، وليست لنا قلوب كالقلوب التي كانت في صدور أسلافنا، والله تبارك وتعالى يرحم ضعفنا.