[شرح حديث سعد: (عادني رسول الله في حجة الوداع)]
قال مسلم: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا إبراهيم بن سعد المدني عن ابن شهاب -وهو الزهري - عن عامر بن سعد عن أبيه عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع)].
يعني: سعد سبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وإلا فـ سعد بن أبي وقاص من أوائل المسلمين، وقد هاجر إلى المدينة مع النبي عليه الصلاة والسلام، فهو من المهاجرين، ولكنه رجع إلى مكة إما للحج وإما لحاجة أخرى أرسله فيها النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع) أي: في أثناء حجه، والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما حج بعد البعثة إلا مرة واحدة وهي حجة الوداع، وقيل: إنه حج قبل البعثة على ملة إبراهيم مرتين.
قال: [(عادني من وجع أشفيت منه على الموت)]، أي: أشرفت منه على الموت، يعني: كدت أن أهلك بسببه، وفي هذا استحباب زيارة الأمير والسلطان والحاكم ومن يشار إليه بالبنان، فزيارة الكبير تدخل على نفس الصغير أعظم السرور، وفيها من اغتباط القلب والولاء وغير ذلك، وأذكر أن جماعة من الجماعات العاملة على الساحة كثرت أعدادهم بسبب اجتماعياتهم، ومنها الزيارة في الله، زيارة المرضى، ومواساة المحتاجين وغير ذلك، فهذا من أعظم الأعمال التي يحرصون عليها، وكان الواحد منهم من قبل وهو كبير لا يظن به أن يتفرغ لزيارة واحد منا ونحن في الإعدادية مثلاً أو في أول الثانوية، فكان الواحد منهم مع منزلته المرموقة ومكانته السامية يأتي فيزور الشباب الملتزم، فيترك أثراً عظيماً جداً في قلب الوالدين وفي قلب الأعمام والجيران والأهل وغير ذلك، فتسمعهم يقولون: الشيخ الفلاني أتى يزور هذا الولد؟ والعالم الفلاني والداعية الفلاني الذي لا يوجد مثله جاء ليزور ولدي؟ فيشكرونهم ويحبونهم، وهذا بلا شك من مكارم الأخلاق، وإذا فعله لله عز وجل فإن الله تعالى يكافئه عليه بأعظم مما بدر منه.
ففيه استحباب عيادة المريض وأنها مستحبة للإمام كاستحبابها لآحاد الناس.
ومعنى (أشفيت على الموت) أي: قاربت وأشرفت عليه، لكن لا يقال: أشفى الله فلاناً إلا في الشر، يعني: هناك فرق بين شفى الله فلاناً، وأشفى الله فلاناً، فأشفى لا تقال إلا في الشر؛ ولذلك هنا يقول: أشفيت منه على الموت، أي: قاربت منه.
جاءت امرأة إلى الإمام الشافعي وهو مريض، فقالت: أشفى الله الإمام، والمعنى: أهلك الله الإمام.
وهي من عامة الناس، فقال الإمام الشافعي: آمين.
اللهم بنيتها لا بلفظها، فهي توجهت نيتها وإرادتها إلى الدعاء له لا الدعاء عليه، فقال: اللهم بنيتها لا بلفظها.
قال: [(فقلت: يا رسول الله! بلغني ما ترى من الوجع -أي: أنت الآن علمت شدة الوجع الذي نزل بي- وأنا ذو مال))] أي: صاحب مال، وأهل اللغة لا يقولون: فلان ذو مال إلا إذا كان له مال في العُرف المعتبر، فقد توجهت كلمات العرف إلى أن المال هو المال الكثير؛ ولذلك جمهور أهل العلم يقولون: لا يلزم صاحب المال القليل الوصية.
قال: (بلغني ما ترى من الوجع) وهذا الكلام على سبيل البيان، كأنه يقول: أنا أبيّن حالي من المرض والوجع الذي نزل بي لأجل مصلحة شرعية مترتبة على هذا، وهو أني ذو مال.
أما أن يقول: لقد نزل بي من الوجع ما تراه، فبلا شك أنه مؤثر جداً في ثواب المريض إذا كان على سبيل الشكاية.
فهذا قوله: (وإنك ترى ما نزل بي من الوجع) ليس على سبيل الشكاية، وإنما على سبيل التقدمة لبيان الحكمة الشرعية، وللسؤال عن المال الذي عنده كيف يتصرف فيه.
قال: [(وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي)] وهذا الحديث روي عن عامر بن سعد وعامر بن سعد وغيره كانوا أبناء لـ سعد، بل قد ورد أن سعداً له ستة أولاد، لكن لم يكن له من الأولاد إلا ابنة في أول أمره حينما نزل به المرض، ولم يقدّر له الموت في هذا المرض، وإنما قُدّرت له الحياة حتى فتح الفتوحات، وضر به أقوام وانتفع به آخرون، ورزقه الله أولاداً آخرين.
قال: [(وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟)]، عندي مال كثير، وأريد أن أتصدق، إما أن تكون هذه الصدقة مؤجلة أو منجزة، ومعنى منجزة، أي: أدفع الآن وفي هذا الوقت، وذلك إذا أذنت في أن أتصدق بثلثي مالي، هذه وصية منجزة في حياته، أما الوصية المؤجلة فسيكتبها قبل موته فيقول: تصدقوا بثلثي مالي.
قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا.
قلت: أفأتصدق بشطره -أي بنصف مالي-؟ قال: لا الثلث.
والثلث كثير -وفي رواية-: كبير)]، يعني: أذن له في أن يتصدق بالثلث، واعلم أن الجواب مطابق لمقتضى الحال، فمقتضى الحال أن عنده مالاً وهو غني، ولكن لم يكن له إلا ا