للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ابتلاء الله لكعب برسالة ملك غسان]

قال: [(فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام)].

والأنباط والنبيط: هم فلاحو العجم، فهذا ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، فمن العجب أن واحداً من أهل الشام أتى ليبيع طعامه في سوق المدينة.

قال: [(يقول: من يدل على كعب بن مالك؟)].

يعني: من يدلني على كعب فأنا لا أعرفه، وقد سار الخبر إلى الروم في الشام بما حصل من الهجر.

قال: [(فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً)].

يعني: أنه يعرف القراءة والكتابة.

قال: [(فقرأته فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك)].

أي: النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: [(قد جفاك)].

أي: قامت بينك وبينه جفوة.

قال: [(ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك)].

فهذه فتنة أخرى، وهي أعظم من الفتنة الأولى، فهذا كتاب جاء من ملك غسان يقول فيه: لقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، فتعال إلينا فإنك لست في أرض هوان ولا ضياع، يعني: أنت عندنا معزز ومكرم ولن تضيع، ودليل ذلك أنك لو أتيتنا لجعلنا لك حظاً عند الملك، ووعود الملوك دائماً لا تخلف؛ لأن خلف الوعود في حق الملوك منقصة.

قال: [(فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتياممت بها التنور فسجرتها بها)].

ولو أرسل لواحد منا، وكانت هذه الرسالة من ملك؛ لارتد عن دينه مباشرة، وهذا يدل على عظم قدر الصحابي، فهو يزن الأمة بأجمعها، فهؤلاء قوم قد اصطفاهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنت لن تكون من أصحابه؛ لأنك أضعف من أن تكون صاحباً للرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولو علم الله فيك خيراً يؤهلك لأن تكون صاحباً لخلقك في ذلك الزمان، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:١٢٠].

فجاءته الرسالة من ملك غسان فأحرقها، ولو وصلت إلى واحد منا لقام ببروزتها، ونشرها في الصحف والمجلات والجرائد؛ من أجل أن يفاخر بها فهناك فرق كبير بيننا وبين الصحابة.

قال: [(أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة)].

قوله: (ولم يجعلك الله) يدل على أن هذه الرسالة فيها ذكر الله، وفيها لفظ الجلالة، لكن كعباً قال: فتياممت بها التنور فسجرتها، يعني: أحرقتها وفيها لفظ الجلالة، وفي هذا جواز حرق الأوراق الممتهنة أو القابلة للامتهان، حتى ولو كان فيها ذكر الله ورسوله، وأنتم تعلمون أن المصاحف التي دونت في زمن عثمان رضي الله عنه أجمع الصحابة رضي الله عنهم على حرقها، ولم يخالف في ذلك واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا إجماع على مشروعية حرق المصاحف الناقصة، أو المعيبة، أو التي فيها أخطاء مطبعية أو غير ذلك، فإذا كان عندك مصحف من هذا القبيل فحرقه أولى من بقائه، والحرق قربة إلى الله عز وجل، أو تقسمه أجزاءً أجزاءً، أو سوراً سوراً.