[أحكام الوفاء بالعهد مع الكفار]
قال: (وفيه: وجوب الوفاء بالعهد) وإن كان هذا العهد مع الكفار، قد يلتزم المسلم مع نصراني مثلاً في العمل أو مع جاره في السكن بعهد وميثاق وإن كان شفوياً؛ لأن المسلم يقف عند كلامه، وآخر شيء يفكر المسلم فيه أن يرتبط بميثاق مكتوب؛ لأن اللسان هو الذي يربطك، فـ حذيفة وأبوه لم يكتبوا عهداً مع المشركين، وإنما هو عهد وميثاق باللسان.
كثير منا يلتزم مع النصارى بشرط معين، ثم يكون هو الناقض له، وقد دعينا في أكثر من حادثة للأسف الشديد فوجدنا أن الأخ هو الذي نقض العهد، وهذا دين الله عز وجل فإما أن تلتزم ابتداء وتوفي بما التزمت به؛ لأن هذا هو دين الله، وإما ألا تلتزم من الأصل حتى لا تلام بعد ذلك، ويلام من معك من المسلمين، ويقال: إنكم تخفرون ذمة الله وتخفرون ذمة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا توفون بعهد ولا ميثاق.
فيحسب هذا على دينكم، والدين منه براء، فإما أن تلتزم بما التزمت به من عهد وميثاق بالأداء والمنع والترك وإما ألا تلتزم أصلاً فيكون الأمر أهون.
قال: (وقد اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار ألا يهرب منهم).
أي ربما يأسر الكفار منا أسيراً، ويقولون له: أنت مسلم؟ يقول: نعم.
فيقولون: أنت تلتزم بكلمتك، ودينكم يأمركم بذلك؟ يقول: نعم.
فيقولون: إذاً: نتركك في الشارع هذا ونقول لك: لا تتحرك من هذا الشارع، وإذا تحركت للضرورة فارجع لنفسك مرة أخرى، فلن نقيدك بالقيود ونسلسلك بالأغلال ونغلق عليك الأبواب لأنك مسلم، فالتزم بعهدك وميثاقك.
فهل لو تم هذا بين الأسير المسلم وبين كفار الحرب يلزم المسلم الوفاء به، أم يجوز له الهرب؟ قال: (فقال الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون: لا يلزمه ذلك؛ والحجة لأننا في حالة حرب والحرب خدعة، فمتى أمكنه الهرب هرب.
وقال مالك: يلزمه الوفاء بهذا العهد.
واتفقوا على أنه لو أكرهوه فحلف ألا يهرب لا يمين عليه؛ لأن هذا يمين المكره.
وأما قضية حذيفة وأبوه فإن الكفار استحلفوهما ألا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فحسب، فأمرهما النبي عليه الصلاة والسلام بالوفاء، وليس هذا من باب الإيجاب).
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما أن يفيا للمشركين بعهدهم وميثاقهم، وهو ليس على سبيل الوجوب؛ لأنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه؛ لأن هذا يتعارض مع وجوب طاعة الإمام، ولزومه في القتال، ولكن أراد النبي عليه الصلاة والسلام ألا يشاع عن أصحابه أنهم ينقضون العهد.
وأنتم تعلمون أن المنافق مرتد، وأن الردة حكمها القتل: (من بدل دينه فاقتلوه).
والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين بأعيانهم وذواتهم وأسمائهم، ومع هذا ما قتلهم حتى لا يشاع عنه أن محمداً يقتل أصحابه، فحينئذ يكون هذا باباً من أبواب الصد عن سبيل الله عز وجل؛ ولذلك الإسلام يحترم كلام الناس في كثير من الأحيان، وإذا كان كلام الناس يتعارض مع المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، فلا بد أنه كلام معتبر، فقد قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! مكني من فلان فلأقتلنه).
وفي رواية: (فلأضربن عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! أتريد أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه؟).
ولو أشيع ذلك في الناس لخاف الكل من الدخول في الإسلام؛ لأنه ربما دخل في الإسلام فارتكب ما يوجب الكفر أو ارتكب ما يوجب القتل فقتله محمد عليه الصلاة والسلام، فحينئذ يخشى الناس ويفكرون ألف مرة قبل الدخول في الإسلام؛ لأنهم قادمون على القتل وليسوا قادمين على الإسلام.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم)؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو نقض الكعبة وبناها على القواعد الأولى لإبراهيم عليه السلام لقال المشركون واليهود والنصارى: انظروا إلى محمد هدم البيت المعظم، كما يقال: ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة.
ولا بد أن يتأثر بهذه الفرية بعض الناس، فيكون هذا باباً من أبواب الصد عن سبيل دخول هؤلاء في دين الله عز وجل، فترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حتى لا يصد الناس عن الإسلام.
وكذلك قال لـ حذيفة وأبيه: التزما الوفاء بعهد قريش ولا تقاتلا معنا في بدر؛ لأنكما أعطيتماهم العهد والميثاق، ولو خفرتما هذا العهد والميثاق لقال الناس: إن محمداً وأصحابه ينقضون العهود والمواثيق.
وفي هذا إسقاط لمنزلة النبي عليه الصلاة والسلام في قلوب العرب، وفي قلوب المشركين الذين كانوا يدعونه قبل الإسلام بالصادق المصدوق.