[كلام النووي في أحاديث: (لا نورث، ما تركنا صدقة)]
قال الإمام في بعض فوائد هذه النصوص التي ذكرناها: (الحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورّثون: أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك).
أي: لأن المورث إذا كبر في السن تمنى بعض الورثة موته، ولو تمنى أحد موت النبي لهلك ودخل النار.
وهذا باب من أبواب بغض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبغض النبي كفر بالله، فبغض النبي كفر عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك أنتم تعلمون من حديث ابن شماسة المهري عند مسلم أنه قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً، ثم حوّل وجهه ناحية الجدار، فقال له ابنه: يا أبتاه! أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ قال: يا بني! إن أفضل ما نعد -أي: للقاء الله عز وجل- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني كنت على أطباق ثلاث -أي: على أحوال ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار).
ففي هذا تصريح بأن من أبغض النبي وتمنى موته كفر بالله ودخل النار، ولكن هذا كان من عمرو قبل إسلامه.
ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة.
قال: (فلما شرح الله صدري للإسلام أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: ما لك يا عمرو؟! قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي.
قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال عمرو: ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي، ولو أن أحداً سألني أن أصفه ما أطقت ذلك؛ لأني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً وتعظيماً له صلى الله عليه وسلم).
والطبق الثالث قال: (ثم ولينا من هذا الأمر شيئاً ولا ندري ما الله فاعل معنا فيه، فإذا أنا مت فلا تتبعوني بنائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، وامكثوا عند قبري قدر ما أن تنحر جزور ويقسم لحمها، كي أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) انتهى الحديث.
فالشاهد منه: الطبق الأول، وهو: أن من أبغض النبي وتمنى موته وقتله هلك ودخل النار فهذه الحكمة من عدم توريث الأنبياء؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك؛ ولئلا يُظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثه فيهلك الظان وينفر الناس عنه.
وأنتم تعلمون أن الأنبياء ما بعثوا لتحصيل الدنيا وإنما بعثوا لتحصيل الآخرة، وأما كون عمر حلف ألا يدخل عليهم أبو بكر وحده، فحنّثه أبو بكر ودخل وحده ولم يأخذ معه عمر، مع أنه قال: والله لا تدخل عليهم وحدك أي: أنني سآتي معك، فحنثه أبو بكر في هذا.
ففي هذا: دليل عن أن إبرار القسم إنما يؤمر به الإنسان إذا أمكن احتماله بلا مشقة، ولا تكون فيه مفسدة، وعلى هذا يُحمل الأمر بإبرار القسم، فمن حق المسلم على المسلم إبرار القسم، وإبرار القسم هذا إذا كان أمراً ميسوراً لي ولم يكن فيه مفسدة، لكن عندما يكون أمراً يشق علي أو فيه مفسدة فلا يلزم إبرار القسم، كما أنه لا يلزم الكفارة على الذي أقسم.
وفي هذا الحديث من الفوائد: بيان صحة خلافة أبي بكر وانعقاد الإجماع عليها.
ولا تلزم عمر الكفارة؛ لأن هذا واجب على المقسم عليه وليس على الذي أقسم، فلا يلزمه الكفارة، ولا يجوز كذلك للمقسم عليه أن يحنّث الحالف إلا بعذر، أما إذا قال الإنسان: والله لأفعلن كذا ثم لم يفعل لزمته الكفارة.
فلا يلزم عمر الكفارة؛ لأن الوجوب على أبي بكر وليس على عمر، لكن إذا كان قد حلف على شيء أنه سيفعله، فإذا لم يفعله ولم يكن هناك عذر فبلا شك أن الكفارة واجبة عليه، أما إذا قام العذر أو ترجّح لديه وجه آخر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على شيء فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فحينئذ يلزم الحالف -وليس المحلوف عليه- الكفارة.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.