أقوال أهل العلم في المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام:(ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لله أفرح بتوبة العبد من أحدكم يجد ضالته بالفلا)] اختلف أهل السنة في ذلك، وهذا الخلاف بين أهل السنة إنما هو في فروع الاعتقاد، وهو خلاف معتبر، إذ أن أهل السنة قد أجمعوا على أصول السنة وأصول الدين، ولم يختلفوا فيها، فلو أن واحداً قال بجميع ما قال به أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأصول الاعتقاد، لكنه قال: إن الله لا يرى بالأبصار في الآخرة، فهذا يكون معتزلياً؛ لأن رؤية المولى عز وجل في الآخرة أصل من أصول الإيمان، دون أهل الكفر والجحود والكفران، فإنهم لا يرونه عقوبة لهم على ذلك.
والذراع من الرسغ إلى المرفق، وقالوا: الباع من الرسغ إلى المنكب، أي: الكتف، قال: بعض أهل السنة: هذا التقدير في طريق التوبة يدل على أن الله تعالى يقبل على عبده أكثر من إقبال العبد عليه، مع استغنائه عن حاجاتهم، فهذا فضل وكرم من الله عز وجل, وقال بعضهم: لا، بل هذا نص نجريه على ظاهره.
أيضاً: من المسائل التي وقع فيها خلاف بين أهل السنة، وهو خلاف معتبر: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة الإسراء والمعراج، فقد اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم، فقال بعضهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه، وقال بعضهم: لم ير ربه، إذن هل سنخرج أحد الفريقين من دائرة السنة وندخله في البدعة؟ لا؛ لأن المسألة من فروع الاعتقاد، وما دام وقع الخلاف فيها بين السلف فلا يزال الخلاف قائماً إلى قيام الساعة بغير نكير على جميع الأطراف، فإذا جاء أحدهم وأخذ بمذهب عائشة، وهو قول أهل السنة، من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه، فهل الذي يذهب مذهب ابن مسعود وابن عباس وغيرهم يقول: لا, بل قد رأى ربه؟ ثم يشنع على الآخر ويقول له: أنت ضال، أنت مبتدع، إن هذا الكلام لا يجوز؛ هل ينفع هذا الكلام؟ لا، لماذا؟ لأن وجود الخلاف بين الصحابة مع عدم تضليل بعضهم لبعض يدل على أن الخلاف في هذه القضية سائغ ومعتبر، بينما الخلاف في الأصول يكون غير معتبر، فقد يخرج المرء من دائرة السنة إلى دائرة البدعة.
إذاً: بعضهم التزم ظاهر النص، والبعض الآخر قال: المقصود من الحديث: سرعة إقبال الله عز وجل على العبد أكثر من إقبال العبد عليه، وقال بعضهم: تقرب العبد إلى الله كناية عن التوبة، لكن هذه الكناية إطلاق اللفظ وإرادة لازمة، مثل قول: الخنساء تصف أخاها: طويل النجاد رفيع العماد كثير الرماد إذا ما شتى قولها: (طويل النجاد) أي: أنه إنسان طويل، والطول ممدوح عند العرب، حتى يقولون: الطول هيبة وإن كان خيبة، حتى لو كان صاحبه غير صالح.
وقولها:(رفيع العماد)، العماد هو ما يعتمد عليه، مثل: القائم في الأرض، كالخشب أو الحديد، أو العكاز، فهي لم ترد أن تصفه أنه يمشي متكئاً على عمود، وإنما أرادت أن تكني عن شرفه وحكمته ومكانته العظيمة عند قومه.
وقولها:(كثير الرماد) كناية عن الكرم؛ لأن كثير الرماد فيه دلالة على إشعال الحطب وشوي اللحم للضيوف، لكن قلة الفئران في البيت إشارة إلى الفقر، يذكر أن امرأة ذهبت للولي وقالت له: إني أشكو قلة الفئران في بيتي.
كناية منها عن فقرها؛ لأن الفئران ماذا تعمل في بيت ليس فيه إلا البلاط؟ ماذا تعمل الفئران في بيت ليس فيه إلا الرياح؟ لا بد أن ترحل الفئران.
والأولى عندي أن تجرى هذه النصوص على ظاهرها، فنؤمن بها ولا نأخذ في كيفيتها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.