للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فوائد وأحكام من حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه)]

هذه الروايات فيها الحث على الوصية، أي: فيها حث وحض لمن كان عنده شيء يريد أن يوصي فيه أن يبادر بكتابة الوصية، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها، فالأمر بها واجب في الكتاب والسنة، لكن مذهب الشافعية وكذا مذهب الجماهير: أنها سنة لا واجبة، وقال داود الظاهري وغيره من أهل الظاهر: هي واجبة لهذا الحديث، ولا دلالة لهم فيه، فليس فيه تصريح بإيجابها، يعني: هذا الحديث في الظاهر لا يدل على الوجوب، لكن إن كان على الإنسان دين أو حق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الإيصاء بذلك، يعني: إذا كان الإنسان مضطراً إلى ذلك، بل إذا ترك الوصية فإنه يكون على خطر عظيم جداً، فحينئذ تجب عليه الوصية، فإن كان عنده ودائع أو رهائن أو غير ذلك للخلق وترك الوصية فلا شك أنه سيضيّع حقوقاً أخذاً وعطاء، فإذا أتى الدائنون إلى أهله بعد مماته يطالبون بديونهم ربما تنكّر لهم أهل الميت، وقالوا: ليس لديكم مستند، ولا كتب ذلك بوصية؛ ولا أوصانا مشافهة بذلك، فأنى لنا تصديقكم في هذا المدعى؟ وهذا أمر فيه تضييع لحقوق الخلق، وكذا لو كان هذا الرجل مما يؤثر نفسه بالسر ولم يطلع عليه أحداً، وعنده من الرهائن أو الودائع المالية وغير المالية للخلق، فإنه يلزمه عند ذلك أن يكتب الوصية، وإلا لعد الورثة ما تركه المورّث ميراثاً لهم حتى وإن زعم الزاعمون أن لهم عنده رهائن أو ودائع، لكن ليس لديهم ما يستندون إليه، كما لو ترك الإيصاء في إيصال الحقوق إلى أصحابها، فإن هذا أيضاً أمر مضيع لحقوق الخلق.

قال الشافعي رحمه الله: معنى الحديث: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده.

إن الإمام الشافعي إمام من أئمة اللغة، بل قوله في اللغة حجة كما قال غير واحد من أئمة اللغة، أي: هو كـ ثعلب وسيبويه وغيره، بل هو أولى منهم بكثير في فهم كلام العرب وهو العربي الأصيل.

فهنا يقول: معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ما حق امرئ مسلم) الحزم في الاحتياط أن يكتب المسلم وصيته، وهذا اللفظ لا يدل عند أهل العربية ولا عند الشافعي على الوجوب.

قال: ويستحب تعجيلها.

يستحب تعجيل كتابة الوصية، وأن يكتبها في صحته، يعني: لا ينتظر أن يمرض مرض الموت، فربما يأتيه الموت فجأة، فأنّى له أن يوصي وقت وفاته؟ وسواء كان ذلك في صحته أو في مرضه فالأمر مرهون بما إذا توفر لديك شيء تريد أن توصيه.

وبعضهم قال: هذا الشيء هو المال، وبعضهم قال: بل لفظ شيء عام في الأموال وفي غيرها، وهذا هو الراجح، بل قد أخرج البخاري وغيره أن الرجل فيهم كان يوصي صاحبه بأن يقوم في أبنائه على تربيتهم وحسن تعليمهم، وكان يكتب بذلك وصيته، وهذا أمر معنوي ليس أمراً مالياً ولا مادياً.

وهذا يدل على أن لفظ شيء من ألفاظ العموم التي لا يجوز تخصيصها إلا بمخصص.

فالإنسان إذا أمكن أن يوصي في شيء سواء كان مادياً أو مالياً أو معنوياً أو عينياً أو غير ذلك، فالأصل أن يعجّل كتابة هذه الوصية، ولا ينتظر أن يوصي في مرض موته أو إذا مرض أو غير ذلك؛ لأنه لا يدري متى سيأتيه الموت.