[معنى قوله: (سجع كسجع الأعراب)]
أما قوله عليه الصلاة والسلام لهذا الرجل الذي اسمه حمل بن النابغة الهذلي لما قال: (يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، ومثل ذلك يطل) يعني: أنه هدر.
وفي رواية: (مثل ذلك بطل) يعني: هدر.
ومعنى يطل: أي: هدر غير مضمون.
فهذا صورته صورة اعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حكمه الذي نطق به وحي السماء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (هذا سجع كسجع الأعراب) وفي رواية قال: (إنما هذا من إخوان الكهان.
من أجل سجعه الذي سجع).
وقوله هذا عند العلماء على وجهين: الوجه الأول: أنه عارض به حكم الشرع، ورام إبطاله.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا من إخوان الكهان) يحتمل معنيين: المعنى الأول: أنه اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه ورام إبطال الشرع في هذه القضية.
المعنى الثاني: أنه تكلف في مخاطبته، وربما لم يقصد الرجل إبطال الشرع وإنما قصد إلحاق السجع أو إيجاده، فعابه النبي عليه الصلاة والسلام عليه؛ لأنه تكلفه، والسجع المتكلف مذموم، بخلاف السجع الذي ليس فيه تكلف، وفي القرآن من السجع الذي لا تشعر فيه بالتكلف، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي هو مسجوع بغير تكلف الشيء الكثير، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن قرض الشعر، وإنما كان أحياناً إذا أراد أن يقول شعراً صحح شعره أبو بكر الصديق، فيرد عليه ويقول له: لا يا رسول الله! الأمر ليس على ما قلت، الأمر كذا وكذا، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الشعر، ولم يتعمد إيجاد السجع، وإنما كان أحياناً في كلامه سجع غير متكلف.
ولذلك قال: (وهذان الوجهان من السجع المذمومان، أحدهما الذي فيه تكلف، وأما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في بعض الأوقات وهو المشهور في الحديث فليس من هذا؛ لأنه لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلف).
إذاً: السجع في الشعر المذموم هو الذي يدعو إلى الرذيلة، أو يكون متكلفاً فيه السجع، أو يعارض الشرع، أما الشعر الذي يدعو إلى الفضيلة ويثبت الأحكام، أو يشهد للقرآن أو السنة فهذا كلام جميل، وهو من كلام العرب، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقال بين يديه الشعر الجميل الحسن فلا ينكر ذلك، بل طلب عليه الصلاة والسلام من حسان بن ثابت أن يقوم فيرد على المشركين قولهم، فقام وقرأ الشعر بين يديه، وفي هذا إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لـ حسان بن ثابت وغيره.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحرا) البيان هو الفصاحة، والشعر باب من أبواب البيان، فيشهد لما قلناه.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) المراد به: الشعر المتكلف الذي يدعو إلى الرذيلة، أو يعارض به حكم الشرع، وهذا جمع بين الروايات التي وردت تمدح الشعر في ناحية، وتذم الشعر في ناحية أخرى، فلا بد أن يحمل المدح على الشعر الهادف الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق وغير ذلك، ويحمل الذم على الشعر المتكلف المسجوع بغير فائدة، الذي يعارض به حكم الشرع أو يدعو إلى الرذيلة.
هذا هو وجه الجمع بين هذه الروايات.
أما قوله: (سجع كسجع الأعراب) أي: هذا كلام متكلف مسجوع، أشار إلى أنه مذموم، وأنه كسجع الأعراب المذموم.