[رسالة النووي إلى السلطان في التلطف بالرعية وعدم انتزاع أملاكهم]
ومما كتبه أيضاً الإمام النووي إلى السلطان حينما حارب التتار وأزالهم عن البلاد، إذ ذهب السلطان إلى دمشق فقال له وكيل بيت المال في دمشق: إن هذه الأملاك ومعظم الأراضي التي تحت أيدي الناس إنما هي ملك للدولة، وهي وقف عليها، وأما هؤلاء الناس فقد استولوا عليها استيلاء، فأمر السلطان بأن تُحاط هذه الأملاك وتنتزع من هؤلاء الناس، ولا يأخذ أحد منهم ما يدّعيه إلا إذا أثبت ذلك بمكتوب وبأوراق، فحينما فعل ذلك السلطان وأصدر أوامره كتب إليه الإمام النووي مرة ثالثة.
قال: الحمد لله رب العالمين.
قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٥٥]، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:١٨٧]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:٢].
وقد أوجب الله على المكلفين نصيحة السلطان أعز الله أنصاره، ونصيحة عامة المسلمين، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
ومن نصيحة السلطان -وفقه الله لطاعته وتولاه بكرامته- أن يُنهى إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام، أو على غير ما قرره الشرع، فأنت قد أمرت بنزع هذه الأراضي ممن وضعوا أيديهم عليها، وهذا بخلاف حكم الإسلام، فحينما كان ذلك ونحن نعلم محبتك لشرع الله وجب علينا أن ننصحك وأن نبين لك حكم ما فعلت.
قال: قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:٨٨]، وفي الحديث: (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم).
أي: بدعاء ضعفائكم لا بذواتهم وأشخاصهم كما هو مقرر في عقيدة أهل السنة.
قال: وقال صلى الله عليه وسلم: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور على يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).
وقد أنعم الله علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان أعز الله أنصاره، فقد أقامه لنصرة الدين والذب عن المسلمين.
السلطان بيبرس كان محباً للدين ولشرع الله عز وجل، وكان محباً للسنة وللعلماء، وكان يقربهم إليه.
قال: وأذل به الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب منه في قلوب أعداء الدين وسائر الماردين، ومهّد له البلاد والعباد وقمع أهل الزيغ والفساد، وأمده بالإعانة واللطف والسعادة، فلله الحمد على هذه النعم المتظاهرة والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين وزيادتها في خير وعافية آمين.
قال: لقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد الزيادة للشاكرين، فقال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:٧].
ولقد لحق المسلمين بسبب هذه الحيطة التي أنت عملتها على أملاكهم أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثبات ما لم يلزمهم.
أي: أنهم يقدمون الأوراق والمستندات، وهذا أمر لم يلزمهم به الشرع، فهذه الحيطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين، بل من في يده شيء فهو ملكه لا يحل الاعتراض عليه ولا يكلف بإثباته.
قال: وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع ويوصي نوابه فهو أولى من عمل به، أي أنك إذا كنت أنت توصي بالالتزام بالشرع فأولى بك أن تكون أول العاملين به، والمسئول إطلاق الناس من هذه الحيطة، والإفراج عن جميعهم فأطلقهم أطلقك الله من كل مكروه، فهم ضعفة وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين والضعفة والصالحون، وبهم ننصر ونغاث ونُرزق، وهم سكان الشام المبارك جيران الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وسكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات متعددة، فأطلقهم أطلقك الله تعالى.
ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد -يعني: لو أنك نزلت إلى واقع الناس وإلى الشوارع ونظرت إلى حال الناس- لاشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم، ولكن لا تنهى الأمور إليه على وجهها، أي لا تبلغه أحوال الرعية كما ينبغي؛ لأن في الطريق عقبات كثيرة تحول وتحجب بين إيصال الواقع وحقيقة الرعية إلى الراعي والمسئول.
فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجّل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار، وتلف غلاتهم فإن أكثرهم ورثوا