[العمل بشرع من قبلنا والأمثلة على ذلك]
وشرع من قبلنا هو شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يبطل ذلك، فالسجود للبشر كان جائزاً في شريعة يوسف، وأما في شريعتنا فليس بجائز، فلا يحل لمسلم في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام أن يسجد لأحد قط؛ احتجاجاً بسجود والدي يوسف وإخوته له؛ لأن هذا شرع من قبلنا ولم يوافق شرعنا، بل شرعنا خالفه مخالفة صريحة، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام الجالس أن يقوم للقائم، ولما قام إليه الصحابة قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، لا تفعلوا) أي: لا تقوموا.
ثم قال: (ومن أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، والخطر كله يكمن في حب الداخل امتثال الناس بين يديه قياماً، فالقضية كلها متعلقة بنية الداخل على القوم الجالسين.
ولذلك (لما أتى معاذ بن جبل من اليمن انحنى بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فأنكر عليه فوراً، فقال: يا رسول الله! إنهم في اليمن يفعلون هذا ببطارقتهم، وأنت أولى بذلك منهم، قال: لا تفعل).
وفي هذا بيان مباشر وفوري أن هذا العمل غير مشكور، وغير مشروع في شرعنا، وأما في شرعهم فقد كان مباحاً وقربة إلى الله عز وجل.
فالقاتل الذي كان في شرع من كان قبلنا غفر له لما تاب إلى الله عز وجل، مع أنه قتل مائة نفس، وفي شريعتنا أن من قتل نفساً ثم تاب تاب الله عز وجل عليه، فهذا الذي هو مقرر في شريعة محمد كان هو نفس الذي قرر في شريعة ذلك الرجل الذي قتل مائة نفس، فشرع من كان قبلنا هو نفس شرعنا ما لم يرد في شرعنا ما ينقضه ويرده، فمسألة شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ محل نزع بين العلماء: فمنهم من قال: ليس شرعاً لنا.
ومنهم من قال: بل هو شرع لنا.
والرأي الراجح -وهو الثالث-: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نص في شرعنا يبين أن هذا يتفق مع شريعتنا.
ومعلوم أنه ليس هناك إثم قط على الداخل، فالنبي عليه الصلاة والسلام قام إلى جعفر بن أبي طالب، وسفيان الثوري كان يقوم للداخل الغريب أو الغائب، وليس كل من دخل أقوم له، إنما القيام على حسب المقام، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد الحفاظ على قلب الداخل أن يكون من أهل النار، وأما لو دخل عليك شخص وأنت واضع رجل على رجل، وهو يريد أن يعانقك وأنت ملقى على ظهرك فإن قلبه سوف يتغير عليك جداً؛ لأنه أتى باشتياق وإقبال عليك لأجل أن يعانق، ويسلم بحرارة وغير ذلك، فمن الأدب أن تحسن استقباله، (والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا وجد الحسن والحسين على باب المسجد نزل من على منبر الجمعة، ويخترق الناس حتى يصل إلى باب المسجد فيعانقهما، ثم يحملهما، ثم يصعد المنبر بهما، ويقول: إنما أموالكم وأولادكم فتنة) فهذا هو الحب الفطري الجبلي الذي ربي في القلب.
فالمهم أن يكون في حساب الداخل على قوم جالسين أن يستوي عنده قيامهم له وعدم قيامهم، لكن يسن ويفضل للجالس أن يقوم للقادم؛ خاصة إذا كان من أهل العلم، أو من كبار السن، أو من ذوي القرابة نسباً أو مصاهرة؛ لأن هذا فيه تأليف للقلوب، وصلة الود بين القادم والجالس، (والنبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من خيبر وجد جعفر بن أبي طالب، فقام إليه، وقبله بين عينيه، وقال: لا أدري بأيهما أسر: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر!).
فعلى المسلم أن ينزل الناس منازلهم، وتقدير الناس على قدر منازلهم في الشرع باب من الأدب عظيم جداً ينبغي لطلاب العلم خاصة، والمسلمين عامة أن يعتنوا به عناية فائقة.