[الأدلة العقلية على نفي التمثيل]
وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق فمن وجوه: الوجه الأول: أن صفات الخالق غير صفات المخلوق، فمثلاً صفة الوجود ثابتة لله عز وجل، وثابتة للإنسان، ووجود الله تعالى غير وجود الإنسان، فوجود الله تعالى واجب لذاته، وأما وجود المخلوق فجائز، فقياس صفات الخالق على صفات المخلوق قياس فاسد، بل أفسد القياس.
فأنا أقول: أنا موجود والله تعالى موجود، ولكن وجودي غير وجود الله، فوجود الله تعالى واجب لذاته، وأما وجودي فممكن، والله تعالى وجوده منزه عن كل نقص، وأما وجودي فمعرض لكل نقص، فلا يمكن أن يكون الخالق مماثلاً للمخلوق عقلاً.
الوجه الثاني: أننا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، فمثلاً الله تعالى يسمع كل صوت مهما بعد وخفي، وأما المخلوق فلا يسمع إلا ما هو حوله، وربما يكون الصوت حوله فيسمعه ولا يميزه، وربما لا يسمع الإنسان صوت الذي بجواره فيطلب منه إعادة الكلام، وهذا يدل على أن سمعه فيه نقص وعيب، والله تعالى يتكلم بلا عيب ولا نقص، ويسمع بلا عيب ولا نقص.
وهذا يدل على أن صفة السمع عند المخلوق غير صفة السمع عند الله عز وجل، فسمعك ثابت وسمع الله ثابت، ولكن شتان بين السمعين، وقد قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:١].
قالت: عائشة رضي الله عنها كما في البخاري: إن هذه المرأة أتت وجادلت النبي صلى الله عليه وسلم في جانب الغرفة وأنا في جانبها الثاني -يعني: في نفس الغرفة- ولكن خفي علي بعض حديثها، وسمعها الله تعالى من فوق سبع سماوات.
فالمخلوق يشارك الله عز وجل في مجرد اسم الصفة فقط.
الوجه الثالث: الله تعالى مباين ومغاير ومفارق للخلق بذاته؛ لأن الله تعالى معنا بسمعه وعلمه وإحاطته، وليس معنا بذاته؛ بل هو سبحانه وتعالى مستو على العرش فوق السماوات السبع، قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:٢٥٥].
وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:٦٧].
ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فلا يمكن لأحد من الخلق أن يقول: أنا وسع كرسيي السماوات والأرض.
وهذا يدل على أن الله تعالى مباين ومغاير لذات خلقه، والذي يدل عليه قول الله تعالى: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
فلا يمكن لأحد أن يدعي أن الأرض في قبضته يوم القيامة.
والصفات تابعة للذات، فلما كان الخالق مبايناً للمخلوق في ذاته دل ذلك على أنه لا يمكن أن يتماثل الخالق والمخلوق في الصفات ولا في الأفعال ولا في الذات.
الرابع: أننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، فنجد الناس يختلفون في صفاتهم، فهذا قوي البصر وهذا ضعيف، ويقال لكل منهما: بصير أو مبصر، وهذه العيوب التي تدخل على البشر لا يمكن دخولها على الله، وهذا يدل على أن المخلوق يشارك الخالق أصل التسمية، وأما في بقية فروع القياس فيستحيل؛ لأن سمعك غير سمع الله، وبصرك غير بصر الله عز وجل.
وإذا كان التباين في المخلوقات التي هي من جنس واحد فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس، فالتباين بينها أظهر، فلا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أو كيد الحمار، أو كيد الشاة، مع أنها كلها أيدٍ؟ وكثير من الحيوانات ذوات الأربع وذوات الاثنتين لها يد ولها رجل، وإذا كان هذا التباين بين المخلوقات نفسها فما بالك في التباين بين الخالق والمخلوق سبحانه وتعالى؟ فإذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل هو واجب، فالتباين بين الخالق والمخلوق واجب لابد من التسليم به.