[شرح حديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)]
[حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن حبيب الحارثي وتقاربا في اللفظ، قالا: حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة كيسان السختياني البصري - عن ابن سيرين -وهو محمد - عن ابن أبي بكرة وهو عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض)].
أي: كيوم خلق الله السماوات والأرض.
يعني: هذا التبديل والتغيير في أشهر الله تعالى إنما أحدثه الخلق، أما الله تعالى فقد خلق الأيام والشهور، وخلق السموات والأرض على غير ما أحدثه وابتدعه المبتدعون وبدلوا فيه وغيروا وحرفوا، فوافق دخول النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع مكة المكرمة استقامة الدنيا، واستقامة السموات والأرض على نحو ما خلقها الله منذ أول يوم، وسيأتي مناسبة ذلك.
قال: [(السنة اثنا عشر شهراً)] وهي في كل الأحوال اثنا عشر شهراً.
يعني: المبدلون والمغيرون لم يستطيعوا أن يجعلوا السنة إحدى عشر أو ثلاث عشر، لكن التبديل والتغيير إنما جعل في ترحيل شهر مكان شهر، وتبديل شهر مكان شهر.
قال [(منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات)] يعني: ثلاثة أشهر متواليات شهر بعد شهر، وإن كانت في سنتين، وهي: (ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم) مع أن الاثنين الأولين في سنة والثالث أول السنة التالية.
ثم قال: [(ورجب مضر)] سمي بذلك لأن قبيلة مضر كانت تعظم هذا الشهر، لا تتطرق إليه بنسيئة.
يعني: لا تبدله ولا تأخره ولا تغيره، بخلاف غيرها من قبائل العرب.
وسميت بالأشهر الحرم؛ لأن الله تعالى حرم فيها القتل والحرب، وكان هذا معروفاً معلوماً في الجاهلية قبل الإسلام، وقد كان العرب لا يقاتلون فيها، وينتظرون مرور هذه الأشهر في أمان وسلام وإعداد للقتال، وبعد مرور هذه الأشهر يقع القتل والحرب والخراب بين القبائل أو العشائر، أما في هذه الأشهر فأمر محال أن يحدث، ولكنهم احتالوا على حرمة هذه الأشهر كما احتال اليهود على السبت، لما حرم الله تعالى عليهم صيد البحر في السبت ورموا الشباك يوم السبت ورفعوها في يوم الأحد.
وهذه حيلة لا تخفى على الله؛ لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فكذلك هؤلاء الوثنيون العرب احتالوا على حرمة الأشهر، لا بأنهم اعدوا عدتهم في هذه الأشهر فقاتلوا بعدها كما فعلت اليهود بل كانوا شراً من ذلك، لأنهم رحلوا الشهر نفسه إلى شهر آخر، فجعلوا شهر المحرم ينتقل إلى صفر، ويحل صفر مكانه، فيقاتلون بعضهم البعض في شهر محرم ويزعمون أنهم يقاتلون في شهر صفر، وفي العام المقبل ينتقل صفر إلى شهر أسبق أو ألحق، وهكذا حتى إذا كان صفر هو الشهر الثاني في السنة فربما يكون في سنة هو الأول، وربما يكون في سنة هو الثالث، أو هو الرابع، أو الخامس، وهكذا حرم الله تعالى عليهم النسيئة، وهو: التأخير.
أي: تأخير أشهر الحرم حتى يتسنى لهم القتل بزعمهم في أشهر ليست حرماً، وظلوا على هذا النحو حتى كان شهر المحرم في عام هو الشهر الثاني، وفي العام الذي بعده هو الثالث، أو الرابع، أو الخامس، حتى مرت الأيام ورجع شهر المحرم إلى موطنه الذي جعله الله فيه وهو الشهر الأول في السنة، فلما كان حجة الوداع ناسب ذلك، ووافق ذلك ترتيب الشهور على النحو الذي خلقها الله عز وجل عليه في أول الأمر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض).
يعني: هذه السنة التي نحن حججنا فيها حجة الوداع قد رجعت إلى أصلها وهو الترتيب الطبيعي للأشهر الذي رتبه الله عز وجل؛ لأن هؤلاء قد أحدثوا، وابتدعوا في ترتيب الأشهر ما لم يأذن به الله عز وجل.
قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات) وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم (ورجب الفرد).
سمي رجب الفرد؛ لأنه انفرد، ولم يكن تابعاً ولا متوالياً مع هذه الأشهر، فهو يسمى رجب الفرد أو رجب مضر.
قال: [(ورجب شهر مضر، الذي بين جمادى وشعبان)].
لأن رجب هو الذي يسبق شعبان ويلحق جمادى الآخر.
[ثم قال: (أي شهر هذا؟)]، المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما وضع لهم أصل القضية الأولى وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب في منى في المنحر، ومعلوم أنه لا يخفى على الصحابة في حجة الوداع أن المكان هذا اسمه منى، أو البلد الحرام، وأن الحج في شهر ذي الحجة، ولا بد أن يبدأ من يوم التروية، وهو يوم الثامن، وينتهي إما في الثالث عشر، أو الرابع عشر، فهذه المسألة ثابتة، فكان النبي عل