[باب حكم الفيء]
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فقد تكلمنا في الدرس الماضي في الفرق بين الفيء والغنيمة، أما الفيء: فإنه ما حصّله المسلمون بغير حرب ولا قتال، ومن غير أن يدركوه بخيل ولا ركاب، والفيء خاص بالإمام ينفقه حيث شاء في المصارف الشرعية.
وأما الغنيمة: فللنبي صلى الله عليه وسلم خمسها، وأربعة أخماسها يوزّع على الغانمين، أو على المحاربين المقاتلين؛ دليل ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: [(أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها)] أي: أن حقكم من العطايا موجود في هذه القرية وهو الفيء الذي حُصّل دون قتال.
قال: [(وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)] أي: أن الخمس لله ورسوله، ثم أربعة أخماسها لكم أيها المقاتلون! وفي الحديث الثاني: قال مسلم -وإن كنا قد ذكرناه من قبل: [عن مالك بن أوس بن الحدثان قال عمر رضي الله عنه: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله)].
معنى أفاء الله على رسوله أي: أخذها صلحاً وبغير قتال.
قال: [(مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب -أي: لم يقاتلوا عليه- فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة)] أي: يحتجز لأهله من هذا الفيء ما يكفيهم لمدة عام، وإن كان الواقع يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام ما احتجز طعاماً قط يكفيه لبضعة أيام وإنما كان ينفق منه، وهذا يدل على جواز الادخار لأهل البيت، كما يدل على استحباب الإنفاق من هذا المال المدخر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينفق منه، وكان يدعو الله تعالى أن يجعل رزق آل محمد قوتاً.
أي: على قدر قوت يومهم.
قال: [(وما بقي يجعله في الكراع -الخيل- والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل)].
أي: أنه كان يستعد من هذا الفيء للجهاد في سبيل الله، وأنتم تعلمون أن أحد مصارف الزكاة والصدقات العامة والخاصة هو سبيل الله، وسبيل الله عند الإطلاق هو الجهاد في سبيل الله تعالى.
قال: [وحدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي حدثنا جويرية] وهو ابن أسماء الضبعي، فـ جويرية اسم رجل، وأبوه اسمه أسماء اسم رجل كذلك، فهو جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري [عن مالك -أي: الإمام- عن الزهري: أن مالك بن أوس حدثه قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار -أي: حين طلعت الشمس وأشرقت، وكأنه يقول: أتيته وضوحاً- قال: فوجدته في بيته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله].
الرمال: هو ما ينسج من جريد النخل أو سعف النخل؛ ليضطجع عليه صاحبه، لكن في الغالب أن هذا الرمال يوضع عليه كساء أو شيء من قطن، أو شيء ناعم ليّن حتى ينعم الجالس بجلسته.
قال: [مفضياً إلى رماله، متكئاً على وسادة من أدم -الوسادة: المخدة.
من أدم: أي من جلد محشوة- فقال لي: يا مال!] وهو ترخيم مالك، والترخيم مستحب، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أول من رخّم عائشة رضي الله عنها، فكان يقول لها: يا عائش! ولا يقول لها يا عائشة! وهذا من باب الدلال والترخيم الذي يفيد الود والقرب بين المرخِّم والمرخَّم.
قال: [يا مال! إنه قد دف أهل أبيات من قومك]، أي قد أتانا أهل بيوت من قومك سراعاً.
وقيل: بطئاء؛ لأن كلمة دف من ألفاظ الأضداد، فهي تستخدم استخدامات عكسية، فكلمة دف عند قوم من العرب بمعنى: أسرع.
وعند آخرين بمعنى: أبطأ.
أي: قد أتونا على استحياء ليطلبوا عطايا.
وعند تفسير آخر: قد أتونا مسرعين ليطلبوا عطايا.
قال: [وقد أمرت فيهم برضخ].
وهذا قول عمر أي: يا مالك! قد أتانا أناس من قومك يطلبون العطايا، وأمرنا لهم برضخ.
أي: بعطية قليلة.
قال: [فخذه فاقسمه بينهم].
وكان مالك سيداً في قومه.
[قال مالك: قلت: لو أمرت بهذا غيري؟] تقدير الكلام: لو أمرت أن يقسّم المال فيهم غيري لكان أحسن.
قال: [خذه يا مال! -أي: أنت الذي تقسّمه- قال: فجاء يرفا]، وفي رواية: يرفأ، ولعلها كلمة فارسية ليست عربية، وهي اسم للحاجب والخادم، وفي الغالب أن العرب كانوا إذا استخدموا كلمة ليست عربية في موطنها المعروف في ذلك الوقت يستخدمون كلمات فارسية، فقوله: فجاء يرفأ.
أي: